صدق الإمام على كرم الله وجهه حين قال "لو كان الفقر رجلا لقتلته"، فالفقر بلاشك مذلةٌ للنفس، مدهشةٌ للعقل، جالب للهموم ، كما يبدو لنا من واقعنا الحالي، الذى يدفع لنا بمواقف غريبة وعجيبة للسرقة، والتى لا أظنها تدعونا للدهشة والتأمل فحسب، بل تستدعى التدبر وإيجاد حلول إنسانية عاجلة، قبل أن ترقى إلى مستوى ظاهرة مخيفة، فى ظل الارتفاع الجنونى للأسعار وموجات الفساد الغلاء اللتين تفتحان أبواب الضراء وتغلق أبواب السراء.. لاقدر الله.
أتحدث هنا عن نوعية من اللصوص الجدد الذين دفعهم الفقر إلى حد سرقة بعض المواد الغذائية البسيطة لمجرد سد رمقهم أو ورمق أبنائهم أحيانا تحت ضغط المعيشة الصعبة، ما جعل كثيرين يتعاطفون معهم بدافع إنسانى لحظي، لكنها للأسف وقائع بدأت تكرر يوميا، وهو الأمر الذى تهتز له قلوب كثير من المصريين، جراء انتشار حالات الفقر والعوز الذى يشعرنى بالخوف من وصوله إلى حد الظاهرة، خاصة أنه كثير من حوادث السرقة بدافع الجوع تزامنت مع واقعة حدثت معى شخصيا..
قبل شهر تقريبا، بينما كنت ذاهبا صوب سيارتى قبل منتصف الليل بقليل، والتى كانت قابعة فى مكانها المعهود داخل "جراج" العقار الذى أسكنه، كى التقط بعض أغراضى التى نسيتها قبل 10 دقائق تقريبا، لمحت لصا يعبث ببابها فى محاولة لفتحها، وقبل أن أضع يدى فى جيبى لاستخراج المفتاح واضغط على زر الـ " سنتر لوك " غافلته مستغلا الإضاءة الخافته وتمكنت من الإمساك به .. عبثا حاول الإفلات من بين يدى ، لكنه فشل ربما لصغر سنه، فضلا عن ضآلة حجمه وجسده النحيل إلى حد الهزال، وأشكر العناية الإلهية حين تدخلت فى حينها، قبل أن يدور بجسمه موجها سكينة نحوى فى حركة مباغتة.
وحين أدرت وجهه نحوى أطلق صراخه الهيسترى قائلا بصوت متلعثم: " أنا مش حرامى يابيه.. والله جعان بس.. حاقولك الحقيقة: أنا حاولت أفتح الباب علشان شفت فكة تحت عصاية الفرامل علشان أشترى ساندوتش.. أنا ما بعرفش أسوق أصلا... عندئذ أسقط فى يدي، خاصة بعدما تبينت أن سنه لا يتجاوز الثانية عشرة عاما، وبينما كنت أحكم قبضة يداى على معصميه نظر لى نظرة بائسة، متوسلا كى أعطيه أى شىء ليسد جوعه فلم تدخل معدته لقمة واحدة منذ الصباح، ارتعاشته المصحوبة بخوف وبكاء ورجاء كانت كفيلة بأن تلين الحديد، وتحطم القلب مهما كان حجرا، شعرت بقلة حيلته حين هزمه الجوع فخارت قواه ليسقط مغشيا عليه أمامى وسط حالة من الصمت المصاحب لرزاز مطر خفيف مشبع ببرد قارس فى تلك الليلة.
ناديت على حارس العقار الذى كان غارقا فى سبات عميق، ليحضر كوبا من الماء بالسكر ، وبصعوبة بالغة ناولت لصى الصغير الكأس كى يشرب حتى آفاق من غيبوبته المؤقتة، ليدهشنى بطلبه الطفولى البرىء فى تحقيق حلم العمر بشاندوتش "هامبورجر" متمتما بعبارات تعكس انكسارا وحسرة على ظروفه الصعبة التى لم تمكنه من تذوق هذا "الساندوتش" الذى كثيرا ما سال له لعابه قبل اليوم، وبالفعل اصحبته فى سيارتى وخلال دقائق قليلة كانت معدة الصغير قد امتلأت، ليفتح جوع الأسئلة الصعبة عبر حكاية تشرده الناجم عن فقر أهله، ومن فرط مأساوية قصته أنسانى عبثه بباب سيارتي، لتدور الأسئلة الشائكة فى رأسى عن أحوال هذا الطفل وغيره ممن فتحت الشاشات الفضائية شهيته وداعبت غريزته بأحلام مستحيلة فى ظل تجار الجشع وفساد الذمم التى صنعت جدارا عاليا وعزالا بين هؤلاء البسطاء وبين حق البشر فى المأكل والملبس والمسكن، كما تنص على ذلك أبسط حقوق الإنسان.
هذه القصة ذكرتنى بقصة الشرطى الأمريكى الذى قرر قبل ثلاث سنوات التمسك بإنسانيته لأبعد الحدود واشترى الطعام لامرأة حاولت سرقة 5 بيضات عبر وضعها فى حقيبتها، لكن حارس الأمن كشف أمرها، كانت السارقة "هيلين جونسون" قد حكت للشرطى إنها وابنتاها وأولادهما بعمر 3 أعوام، لم يتناولوا الطعام منذ 4 أيام، وإنها كانت تحاول الحصول على بعض الطعام، لكنها لم تكن تملك ما يكفى من مال، فاضطرت لوضع البيض فى الحقيبة، وعلى أثر هذا الفعل الإنسانى للشرطى أبدت "جونسون" فرحتها بمساعدته لها وعدم قيامه بتوقيفها ، واصفة إياه بـ"الملاك" ، حيث أظهر فيديو التقطه أحد الأشخاص الشرطى وهو يعانق "هيلين" بعد تقديمه لها علبة من البيض مجانا، بحسب صحيفة "نيويورك ديلى نيوز" الأمريكى ، وقال الشرطى إنه كان متأكدا أن "جونسون" كانت تسرق البيض لإطعام أبنائها، إذ سبق له زيارة منزلها أكثر من مرة فى السابق، مشيرا إلى أنه أراد القيام بفعل خير عوضا من عقابها بقسوة.
وأضاف الشرطي: "أحيانا يكون الطريق الأفضل هو عدم الاعتقال، لكننى آمل أنها لن تعيد هذا الفعل مجددا، أنا أصلى لها كى لا تفعل ذلك مرة أخرى"، ومن جانبها أوضحت الصحيفة أن العائلة المكونة من 6 أشخاص تعتمد على مساعدات حكومية شهرية بقيمة 120 دولارا، لكن المبلغ هذا الشهر لم يصل بسبب خطأ فى شركة البريد.
قصتى مع اللص الصغير فى مصر وقصة "جونسون" فى نيويورك تعكسان واقعا مريرا، يحتم علينا أن نتدبر حكمة الإمام أيضا فى وصفه الدقيق لأسباب الفقر وتداعياته المرعبة وطرق محاربته بوعى ومسئولية قائلا: ( من ابتلى بالفقر فقد ابتلى بأربع خصال "الضعف فى يقينه، والنقصان فى عقله، والدقة فى دينه، وقلة الحياء فى وجهه" فتعوذ بالله من الفقر) ، وقد حذرنا - كرم الله وجهه - من أن الإنسان الفقير، الجائع المستغل المحروم المصفد بالأغلال لا يستطيع أن يكون فاضلا ، وإن من اللغو أن يوعظ بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وأن إنسانا كهذا ينقلب كافرا بالقيم والفضائل، فى ظل معدته الخاوية، وجسده المعذب، ومجتمعه الكافر بإنسانيته، المتنكر له، وشعوره بالاستغلال وميسم الضعة الذى يلاحقه أنى كان، هذه كلها تجعله لصا وسفاحا وعدوا للإنسانية التى لم تعترف له بحقه فى الحياة الكريمة.
وفى النهاية يبقى الفقر هو المعضلة الكبرى التى تواجه المجتمعات على كافة صنوفها وفى أى زمان أو مكان كانت، بل هو أس كل المشكلات وأس الشرور فى العالم، ومن ثم يتوجب علينا جميعا - حكومة وشعبا ومجتمع مدنى - السعى بوسائل علاجية للحد من ظواهر الفقر قبل تفشيه، وربما كان على رأس أولياتنا الحالية المساهمة فى مكافحة الفساد بكافة أشكاله، فالسرقة من المال العام تزيد من اتساع فجوة الفقر، فالفقر والبطالة والفساد ياسادة هم من المتلازمات، فلا يوجد مجتمع غير فاسد، وفيه بطالة أو فقر بنسب كبيرة مرتفعة، فكلما انخفض الفساد كلما كانت مشكلتا البطالة والفقر أيضاً منخفضتين.
حكمة أخيرة
" الأسد لم يصبح ملكا للغابة لأنه يزأر، ولكن لأنه عزيز النفس، لا يقع على فريسة غيره مهما كان جائعا يتضور .. لا تسرق جهد غيرك فتتجور! ".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة