أعتذرُ لهُواة ملاحقة الكُتّاب بقضايا التكفير إن خيَّب هذا المقالُ أملَهم فى ملاحقتى بقضية جديدة، بعدما أنعش عنوانُ المقال أملَهم فى سَجنى، وأسالَ لعابَهم. فذاك السؤالُ الوجودىّ: «عزيزى ربنا.. ممكن أعرف عنوانك؟»، ليس سؤالى، بل جاء على لسان صبى جميل فى الثالثة عشرة من عمره، مصابٍ بالتوحّد «Autism» وأيضًا مصاب بالسرطان.
شأنه شأنَ مصابى السرطان، نحيلٌ هزيلٌ لن يعيش طويلاً، لهذا لن يقضى قاضٍ بسَجنه، لأنه لن يعيش إلا أيامًا قليلة، وحين يصدر الحكمُ بسجنه، سيكون الصبى قد فارق الحياة. وشأنه شأن المتوحدين، يكره الزيفَ والكذب، لهذا لا يُحبّ أصحاب الأقنعة والتديّن الشكلى، ولم يسمح لأحد بأن يخترق عالمَه إلا ممرضةً واحدة فى المستشفى التى يعيش فيها أيامه الأخيرة مع رفاق ثلاثة فى نفس عمره هم «بسطرمة»، «فشار»، «آينشتين». أجرى مؤخرًا عملية زراعة نخاع فاشلة، جعلته يتألم ويعيش فى عزلة مُضافة لعزلته الأساسية مع التوحّد، وجعلت عالمه يزداد فقرًا وجفافًا وهو يسمع من حوله يتهامسون بأن أيامه فى هذا العالم أوشكت على الانقضاء.
وحدها الممرضة المثقفة العجوز، التى سماها «ماما الوردية»، نجحت فى إنعاش حياته بقدر هائل من الفرح والشعور بالأمان حين أقنعته بأن كلَّ يوم متبقٍ له فى الحياة يكافئ عشر سنوات. مَن الذى حدّد أن اليومَ أربعٌ وعشرون ساعة، وأن الساعةَ ستون دقيقة، وأن الدقيقة ستون ثانية، وأن العامَ أيامٌ كثيرة؟ إنسانٌ فعل هذا، وبالتبعية فإن أىَّ إنسان آخرَ بوسعه أن يبتكر شيئًا آخر. وأقنعته تلك الحسبةُ الرمزية بأنه سيعيش مائة وعشرين عامًا، خلال الاثنى عشر يومًا المتبقية له فى هذا العالم الطيب. وحين اشتكى لها وحدته، أخبرته أن بوسعه أن يصادق الله، الحبيب الأعظم الذى لا يعرف الوحدةَ كلُّ مَن يحبّه ويحادثه. لماذا لا يكتب كل يومٍ رسالةً إلى الله ويطلب منه كل ما يتمنى؟ وبدأ الصبىُّ حياته الغنية الجديدة بعدما عرّفته على «الله» الذى لم يكن يصدّق وجوده، بعدما اكتشف حين نضج الخدعةَ الكبرى التى عاش فيها طفلا: عدم وجود شىء اسمه «بابا نويل»، لكن ماما الوردية/ الممرضة، أفهمت الصغيرَ بأن الله يحقق الأحلام الصعبة «المعنوية»، بعكس بابا نويل الذى لا يجلب إلا الهدايا البسيطة «المادية» مثل الشيكولاتة واللعب، هذا بفرض وجوده الزائف، عكس وجود الله الحقيقى، وأن وجود الله مرهونٌ بدرجة إيماننا به. كلما اقتربنا منه وأدخلناه فى تفاصيل يومنا، ازداد وجوده فى حياتنا. وبدأ الصبى المريض، مع إشراقة كل يومٍ جديد، يكتبُ إلى الله رسالةً جديدة، يحكى له فيها أفكاره ومخاوفه وأحلامه، ويطلب منه أمنيةً واحدة فقط كل يوم.
يبدأ رسالته الأولى بعبارة «عزيزى ربنا»، وحكى له عن ماما الوردية وطبيبه الحزين لفشل علاجه، وأمه وأبيه اللذين تركاه فى المستشفى ويأتيان لزيارته يومًا واحدًا فى الأسبوع: الأحد، وعن رفاق المرض ومنهم البنت الجميلة التى أحبها، وفى كل يوم يطلب من الله أمنيةً، ويختم رسالته بسؤال محدد: «دلوقت أنا مش عارف عنوانك، أبعت الجواب إزاى؟ إلى اللقاء بكره، قبلاتى».
فى الرسالة الثانية طلب من الله أن يزوره. وحدد له مواعيد الزيارة من الساعة 8 صباحًا حتى الساعة 9 مساء، ولو قرر اللهُ أن يزوره فى موعد نومه، عليه إيقاظه من النوم، لا مشكلة. وظل ينتظر الزيارة كما العيد. بوسعه أن يزوره فى أفكاره، فى أحلامه، بالطريقة التى يختارها الله.
فى الرسالة الثالثة، أصبح عُمر الصبى بالقياس الجديد، بضعًا وعشرين عامًا. وعاتب اللهَ لأنه لم يأت لزيارته حتى الآن، لكنه شكره لأنه حقق، إلى حدّ ما، كل الأمنيات التى طلبها منه فى الرسائل السابقة. وبدأ قلبه يخفق بالحب لرفيقته فى المستشفى مريضة السرطان الصبية الجميلة النحيلة. ثم قرّر أن يقف على باب غرفتها حتى يحميها من الأشباح التى تظهر لهم وتقرصهم فى الليل وتجعلها تصرخ. فى هذه الرسالة طلب من الله أن يُنجح العملية الجراحية التى ستُجرى صباح الغد لحبيبته. ثم اكتشف أن هذا الطلب أمرٌ مادىّ ليس من اختصاص الله، كما أفهمته دادا الوردية، فقرر أن يُعدّل الأمنية ويطلب من الله أن يجعل حبيبته تفرح بالنتيجة سواء نجحت العملية، أو فشلت كما فشلت عمليته.
فى العشر سنين التالية/ اليوم التالى، سيعيش الصبىّ المتوحد أصعب أيام عمره، أثناء عملية حبيبته. اعتزل الرفاق واعتكف بغرفته فى انتظار النتيجة. سأل ماما الوردية: «ليه ربنا بيخلق ناس مرضى زيى وزى حبيبتى؟ هو ربنا زعلان مننا عشان كده بيعاقبنا؟» فعلّمته الممرضة الطيبة أن المرض والموت ليسا عقابًا بل قدر طيب ككل أقدارنا. لهذا أشفق على الدبّ اللعبة بعدما سقطت عينه وأنفه وانفرط القطن من أحشائه، أشفق على مرضه واحتضنه ورفض الدب الجديد الذى جلبه له أبواه بدلا من ذلك الدب المعتلّ. نجحت عملية حبيبته وفرح الصبى لهذا لم يطلب من الله أى أمنيةً فى خطاب اليوم مكافأة له على شفاء حبيبته.
الآن وقد أصبح عمره أربعين عامًا على الروزنامة الافتراضية، قرر أن يُرسل هدية إلى الله مقابل كل هدايا الله له طوال عمره السابق، وسأله: «تحب أجيب لك ايه هدية يا ربنا؟». وأقنعته ماما الوردية أن أجمل هدية يحبها الله هو أن يصالح الصبى أباه وأمه اللذين كان يكرههما لأنهما تركاه فى هذه المستشفى وحيدا.
الأسبوع المقبل نكمل حكاية الصبى مريض السرطان، المتوحد، الذى أتمّ مائة وعشرين عامًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة