حظى الأيتام فى إسلامنا الحنيف بعناية فائقة، ورعاية كاملة، وتكريم بالغ يضاف إلى التكريم الذى أولاه الإسلام للإنسان بشكل عام، ويكفى تكريمًا للأيتام أن نبى الرحمة، صلى الله عليه وسلم، كان يتيمًا، ومن مظاهر التكريم للأيتام أيضًا أن أول مسجد بناه رسولنا، صلى الله عليه وسلم، فى المدينة بعد هجرته بُنِى على أرض يتيمين بعد تعويضهما، وأن الله عز وجل ذكر لفظ اليتيم بمشتقاته أكثر من عشرين مرة فى كتابه الكريم، وأن خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يُكرَم، وأن مَن يكفل يتيمًا يفوز برفقة رسولنا الكريم فى الفردوس الأعلى، كما أخبرنا الصادق الأمين بقوله: «أنا وكافل اليتيم كهاتين - وأشار بالسبابة والوسطى- فى الجنة»، وأن مَن يمسح على رأس يتيم حنوًا وعطفًا له بعدد ما أصاب من الشعر بيده حسنات، لقول النبى: «من مسح رأس يتيم لا يمسحه إلا لله، كان له بكل شعرة تصيبها يده حسنات»، وأن التضييق على اليتيم تكذيب بالدين، لقوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ»، وأن أكل مال اليتيم أو إتلافه من الكبائر، لقوله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا»، وقول النبى: «اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»، إلى غير ذلك من النصوص التى تتجلى فيها عناية الإسلام وتكريمه للأيتام. وقد تلقت الأمة هذه التوجيهات الشرعية جيلًا بعد جيل، فأدرك كثير من المسلمين أن أقصر طرق الوصول إلى رضوان الله هو تكريم الأيتام ورعايتهم، فرقت قلوبهم فرادى وجماعات للأيتام، فأُنشئت العديد من الجمعيات الخيرية التى تعنى بالأيتام فى العديد من دول العالم، وترعى بعضها منظمات دولية، وعُقدت مؤتمرات وندوات لوضع خطط كفيلة بالارتقاء بكفالة الأيتام، والبحث عن حلول لمشكلات تعوق الأعمال الخيرية التى تؤدَى لهم، ومن هذه المشكلات السن المعتبرة قانونًا فى هذا الشأن؛ حيث يعوق الجمعيات والجهات المعنية بكفالة الأيتام السن المحددة، فمتى بلغ اليتيم الثامنة عشرة انتهت كفالته على الرغم من أن اليتيم الذى يبلغ هذه السن يكون فى كثير من الأحوال أحوج ما يكون إلى الكفالة، ويعلم الجميع أن تلك المرحلة، خاصة إذا التحق اليتيم بالجامعة، هى الأكثر نفقات ومتطلبات مما سبقها، فقطع الكفالة عنه قد يوقف مسيرته التعليمية، وهو ما قد يجنح به إلى قبول مغريات الأيدى العابثة بأمن الأوطان ومقدراتها، لحاجته وشعوره بتخلى المجتمع عنه.
ومن وجهة نظرى- وهو ما عرضته فى مؤتمر دولى عُقد بالخرطوم فى نوفمبر عام 2016م - فإن المشكلة تكمن فى الربط بين السن القانونية للطفولة والكفالة للأيتام، فليس السن حاكمة مطلقًا، ولكن يمكن الاستئناس بها فى إجراء الأحكام، ومن ذلك أن الله عز وجل ربط دفع أموال اليتامى إليهم، وإطلاق أيديهم فى التصرف فيها بالبلوغ وإيناس الرشد، وهو لا يرتبط بسن معينة، فمتى بلغوا رشدهم، وعرفوا كيفية استغلال أموالهم والحفاظ عليها، وتنميتها بالتجارة ونحوها؛ رُدت إليهم، يقول الله تعالى: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا».
أما الكفالة التى تعنى العناية والرعاية والقيام على شأن اليتيم المكفول، فلا ينبغى ربطها بالسن، وإنما بالاحتياج وعدمه؛ فإذا بقى المكفول محتاجًا استمرت كفالته مع انتفاء وصف اليتم عنه متى بلغ السن القانونية المحددة، وإن زالت حاجته واستغنى بنفسه رُفعت الكفالة عنه ولو لم يبلغ السن المحددة، كما لو مات له قريب فورثه.
ولدينا أدلة كثيرة تؤيد التفريق بين الكفالة والسن، ومنها أن المرأة تكون فى كفالة رجل من ولادتها حتى وفاتها، فهى فى كفالة ورعاية والدها، أو من يقوم مقامه حتى تتزوج، وبعد زواجها تنتقل إلى كفالة زوجها ورعايته، فإن مات أو طُلقت عادت إلى كفالة أهلها مهما بلغت من السن. وقد جرى العرف على أن الولد فى كفالة والده ونفقته- مع انتفاء صفة اليتم هنا- حتى ينهى تعليمه، ويستغنى بنفسه، ولا تنقطع نفقة الوالد عنه بمجرد بلوغه.
وعليه، فإن اليتيم أولى باستمرار النفقة عليه وكفالته بعد بلوغه ممن يعيش مع أبويه، كما أن دفع أموال اليتامى إليهم شُرِطَ فى كتاب الله بنجاحهم فى اختبار يجريه الأولياء للتأكد من رشدهم، وحسن تصرفهم فى أموالهم، فإن لم يأنسوا رشدهم استمر الولى قابضًا على مال اليتيم ينفق عليه منه ولا يسلمه له. ومعنى هذا أن القيام على شأن المكفول لا علاقة له بالسن أصلًا، إنما هو مرتبط باستغناء المكفول، وقدرته على رعاية نفسه، والقيام على شؤونه. ولا تعارض ألبتة بين انتفاء وصف اليتم بالبلوغ، كما دل عليه قول النبى: «لا يُتمَ بعد الحُلُم»، وبين القول باستمرار الكفالة، فثمة فرق بين البلوغ والرشد كما ذكرنا آنفًا. ولذا، فإن على الجمعيات والجهات التى تعنى بكفالة الأيتام أن تعدل لوائحها وأنظمتها المعمول بها، أو تطالب بسن تشريعات جديدة، بما يضمن الفصل بين ارتباط كفالة الأيتام بالسن المقررة قانونًا، فلا تلازم بينهما، بدليل أنه ليس كل صغير يحتاج إلى مَن يكفله ماليًا حتى لو كان يتيمًا، فأحيانًا يكون بعض الأيتام أغنى من أوليائهم. وإنما يلزم فصل السن عن الكفالة لتتمكن الجمعيات والهيئات التى تكفل الأيتام من مواصلة إنفاقها، وقيامها على شؤون الأيتام بعد بلوغهم السن المحددة، وذلك حفظًا للأيتام، وحماية لمستقبلهم، ومنعًا من انخراطهم أو استغلالهم فيما يهدد أمن المجتمع واستقراره.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة