قد تلجأ النفس باحتضان من تحب، وقد تجامل من يحبها بالاستجابة لحضنه، وقد تتظاهر برغبتها فى حضن الآخر لهدف ما، وقد تشعر بالخوف الشديد أو بالفرح الشديد فترتمى أو تستجيب للحضن المتاح فى ذات اللحظة، بصرف النظر عمن هو أو هى صاحبة هذا الحضن، وربما تكن لا تعرفه، وقد تلجأ أو تستجيب لحضن ما كبداية للعلاقة الجنسية، سواء كانت هذه العلاقة من أجل الحب أو من أجل إرضاء غريزة الجنس فقط.
وقد تقوم باحتضان الآخر كنوع من أداء الواجب، كمن يتزوج امرأة لا يحبها فلا يشعر بلذة عند احتضانها ولكنه مضطر لفعل ذلك، وقد تلجأ لاحتضان آخر وتعطيه الكثير من المشاعر لأنه فى احتياج إليها، ولكن فى حقيقة الأمر هى تفعل ذلك لأنها هى التى فى احتياج، وقد وقد وقد.. ولكن، شعور النفس يختلف تماما فى كل حضن من هذه الأحضان، كما يختلف قبل الحضن وبعده، فما أسهل الأحضان والقبلات والكلام الجميل، ولكن ما أصعب الشعور بلذة هذه الأشياء، فلا تشعر النفس بلذتها إلا إذا كانت صادقة، وأحيانا كثيرة لا يكفى الصدق، فقد يكون أحد الطرفين صادقا فى مشاعره تجاه الآخر ولكن الآخر لا يشعر بلذة تجاهه، وهذا ما نسميه "الحب من طرف واحد"، وهو أخطر الأنواع ضررا بالنفس البشرية، فالحب شفاء إن لم يكن متبادلا تحوّل لداء.
ما سبق كانت مقدمة ضرورية لبدء هذا المقال الذى يفتش بعمق فى طبيعة النفس البشرية التى خلقها المولى - عز وجل - على الفطرة النقية التى يحافظ الكثير عليها، ويلوثها الكثيرون بحجة ضغوط الحياة التى تضطرهم للمصارعة على البقاء بتلوين المشاعر.
إن كانت الأحضان الصادقة تمحى الأحزان فإن الأحضان الملوثة تزيدها، وإن كانت الأحضان الصادقة من أهم عوامل متطلبات النمو والعيش السوى للإنسان، فإن اختفاءها من حياته يؤدى لجفاف ماء جسده ونضارة حبه للحياة واستمتاعه بالبقاء.
نتيجة لما سبق فقد أكد علم النفس أن الأحضان الصادقة للإنسان منذ ولادته هى من الاحتياجات الأساسية له كالطعام والشراب والهواء والنوم، والتى إن تم حرمانه منها فإنه يفقد حياته، إذن لماذا من حرموا من الأحضان السابقة ما زالوا على قيد الحياة؟ هل علم النفس علم كاذب فى قراراته؟ لا، لأن علم النفس لا يكذب ولكنه قد يتجمل لاستمرار بقائك فيعطيك القوة لأن تواجه الحياة بمفردك، حتى وإن فقدت أحد احتياجاتك الأساسية فى الحياة، لأن علم النفس يؤمن بأن دوام الحال من المحال، لذا فإن فقد أحدنا أحد احتياجاته الأساسية فى الحياة وتحلى بالصبر فإن الله سيعوضه بها فى يوم ما، وإن كنت فى طفولتك قد فقدت حضن أحد الوالدين أو كليهما فهناك مراحل أخرى لاحقة ستعوضك أحضانها، كأحضان الإخوة أو الأصدقاء أو الزوجة أو الزوج أو الأولاد أو الأحفاد.. إلخ.
ولكن هل لأحد هذه الأحضان أن يعوض فقدان الأحضان الأخرى؟ نعم، فكم من أزواج حرموا زوجاتهم من أحضانهم الصادقة ولكن أبناءهم قاموا بتعويضهم، وكم من أولاد حرموا من الأحضان فى أسرتهم وزوجاتهم فيما بعد قاموا بتعويضهم، وكم من أناس حرموا من الأحضان الصادقة على مراحل الطفولة والمراهقة والشباب وحتى النضج، ولكن عوضهم الله بها فى مرحلة الشيخوخة.. إلخ. وكم من متألقين ومشاهير حرموا فى حياتهم من الأحضان ففتحت لهم كل أسر جماهيرهم أحضانها بصدق.
إن هذا المقال لم أكتبه لتشتيت عقل القارئ كما أرى الآن فى عقول بعض ممن يقرأونه، ولكنه بالفعل هو "السهل الممتنع".. السهل الذى يكشف عن أهمية الأحضان الصادقة لكل كائن حى، ولاحظوا ذلك حتى مع الحيوان والنبات، والممتنع لندرة وجوده واهتمامنا به وتصديقنا لأهميته، نظراً لضغوط الحياة وصدماتها، التى تجعل العديد منا يرى أن الحياة بها الكثير من الأولويات الأهم.
ولكن علم النفس هنا يعطيك آخر ما قدمته الدراسات فيقول "الأحضان الصادقة تمحى الأحزان وتجدد الطاقات وتساعد على الحياة الصحية وتخطى كل الصعوبات والمشاكل المحيطة مهما كانت صعوبتها وأحجامها".. وإن قلنا فاقد الشىء لا يعطيه فعلينا بتصحيح المقولة بأن فاقد الشىء قد لا يعطيه أو يعطيه بقوة، فكم من فقير للمال لم يجد من يتصدق عليه ولكن عندما أصبح ذا مال أصبح أكثر الناس عطاء للفقراء.. وكم من نجمات فى مجال الفن لم ينجبن أطفالا ولكنهن أصبحن بارعين فى تجسيد دور الأم على الشاشة، وفى الواقع وكم من أولاد حرموا من آبائهم ولكنهم أصبحوا أكثر عطاء لأطفالهم وزوجاتهم، وبرعوا فى تجسيد دور الأبوة على أرض الواقع، وكم من إنسان تم تربيته على أيدى خبثاء ومستهترين وأصبح هو من أطيب الناس الملتزمين.. وكم وكم وكم.
ما سبق يؤكد أن المشاعر هى أغلى ما يمتلكه الإنسان، لذا فمن رحمة الخالق أنه جعل المشاعر غير مرتبطة بالجينات الوراثية، لذا هذه المشاعر لا تستحق الإهانة ولا التنازل.. فلا تتجمل فى مشاعرك ولا تهينها لمصلحة ما، ولا تستغل احتياج الآخرين للمشاعر، فإن هذا أرقى ما يملك الإنسان فلا تهينه ولا تسمح للآخرين بإهانته، حتى لا نلوث أرقى ما خلقنا به الله.. فلا تستعجل فى طلب الأحضان الصادقة لأنها بقدر أهميتها بقدر ما يجب عدم تلويثها حتى تأتيك صادقة وليست مزيفة فيتلوث إحساسك بها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة