من جواهر شريعتنا المكنونة فى مجال العمران والتنمية ما يعرف فى تراثنا الفقهى بإحياء أرض الموات، ومعناه تحويل أرض غير منتفع بها إلى واحة عامرة منتجة لما يناسب مناخها وطبيعتها من محاصيل زراعية أو أشجار تثمر فاكهة أو يُنتفع بها فى غير ذلك كأن تكون مصدات وحواجز للرياح والرمال المتحركة مثلًا. ومن إحياء أرض الموات كذلك تشييد المبانى أو إنشاء المصانع وغيرها مما يعود على الناس بالنفع وييسر لهم سبل معيشتهم. وقد سمى إعمار الأرض وتنميتها بإحياء الموات، لأن الأرض قبل إعمارها تكون أشبه بالميت الذى لا نفع يرجى منه، لكن بعد الإعمار تعود هذه الأرض بالنفع على الناس، وهذا هو شأن الأحياء من الكائنات النافعة.
وإحياء الموات المذكور فى كتب تراثنا الفقهى هو ما يعرف فى زماننا باستصلاح الأراضى وتنميتها، وكان إحياء أرض الموات قديمًا يبدأ غالبًا بما يعرف بالتحجير، حيث يقوم من يريد إحياء أرض واستغلالها بتحديد المساحة التى يرى فى نفسه القدرة على استصلاحها بوضع حجارة على أركانها ليُعرف أن ما بينها محجوز لشخص ما حتى لا يقدم غيره على إحيائه، وقد استفيد هذا من منطوق قول النبى، صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يُسبق إليه فهو له»، أى أحق به من غيره ما دام مباحًا مشاعًا، وليس المقصود به الملكية الكاملة، فإذا اكتفى بتحديد الحدود دون مباشرة الاستصلاح نُزعت منه بمرور وقت ما تحدده الجهات المعنية، وحتى إذا ما باشر الإحياء والاستصلاح فلا تثبت له الملكية إلا باتخاذ خطواتها المعتادة وفق الضوابط التى تحددها أجهزة الدولة المختصة، وهو ما أشار إليه قول النبى، صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا مواتًا فهى له»، أى إنه لا يجوز تمليكها لغيره، لكن تمليكها له يكون وفق الضوابط المقررة.
وهذه السبيل التى يراعى فيها الشرع الحكيم حاجات الناس فى وقت لم تكن هناك أزمات زراعية أو سكنية ولم تكن توسعت الصناعات لتحتاج إلى قلاع صناعية كما هو الحال اليوم، لقلة البشر وبداوة المعيشة- يمكن أن تنقذنا من أزمات طاحنة تعصف بالناس فى زماننا، فمعظم أزماتنا لا تعود إلى شح الموارد وكثرة البشر كما يحلو لكثير ممن يأخذون بظواهر الأمور أن يرددوا، وإنما هى نتاج عدم الاستغلال الأمثل لمواردنا والسلوكيات الخاطئة فى التعامل مع الثروات المتاحة، فنحن اليوم نتكدس بالملايين التى جاوزت التسعين فوق مساحة لا تزيد كثيرًا على المساحة التى استوطنها أجدادنا حين كان مجموعهم لا يبلغ عدد سكان القاهرة وحدها، بل إن هذه المساحة التى غالبها على ضفاف النيل تناقص منها أكثر مما أضافته المدن الجديدة نتيجة الزيادة السكانية المطردة التى قدمت حاجتها إلى المأوى على حاجتها إلى الغذاء، فحل محل الزراعة وغرس الأشجار ناطحات سحاب ومساكن عشوائية كلٌّ على قدر استطاعته!
ولا نريد أن نغفل فى هذا السياق تجارب ومحاولات ظهرت فى حقب ما وإن نقصها حسن الدراسة واعتبارها خططًا مستقبلية طموحة تُستكمل خلال الأجيال ولا ترتبط بشخص أو حكومة بعينها، ومن ذلك تجربة الوادى الجديد التى لو استمرت بزخمها الرائع الذى بدأت عليه لوجد على أرضها التى تقارب نصف مساحة مصر ويقطنها عدة آلاف فقط، ثلاثة أرباع من يعانون ضيق المعيشة والمسكن فى وقتنا الراهن على ضفاف نيلنا الخالد، لكنها أُهملت وتضاءلت الخدمات المقدمة لها وتُرك الناس هناك يكافحون بما تيسر لهم، فلم يذهب إليها إلا من يستطيع أن يدبر أمر نفسه وعياله بماله الخاص. ومن هذه المحاولات أيضًا المدن الجديدة سواء الزراعية أو الصناعية التى بدأ إنشاؤها فى مرحلة ما، إلا أنها لم تلقَ الاهتمام المناسب من الحكومات المتعاقبة، ولو أنها استمرت بوتيرتها التى بدأت عليها لتغير حالنا عما نحن عليه الآن. ومن ذلك أيضًا تجربة توشكى، وإن كان الناس يختلفون فى تقييمها ومدى الإفادة مما ينتج على أرضها، لكن فى اعتقادى أن أى عمران أو استصلاح سيعود على الناس نفعه ولو بعد حين.
وثمة ضوابط تضبط الموضوع الذى نحن بصدده حتى لا يتحول إلى فوضى وعشوائية، فهو إما أن يكون عن طريق الدولة وأجهزتها المعنية التى تقوم بإعداد دراسات جدوى وافية حول الأرض المستهدف تنميتها زراعيًّا أو إنشائيًّا، وإما أن يقوم به أفراد أو مؤسسات عاملة فى هذا المجال وفق ضوابط محددة وبما يضمن عدم تعارضه مع خطط الدولة التنموية، حتى لا يبذل المال والجهد هباء إذا ما كانت الدولة قد خططت لإقامة مشروعات أو طرق أو نحو ذلك على الأرض، مما يعنى ضياع الاستثمارات التى أُنفقت عليها، ولذا فإن الدولة ينبغى عليها أن تشجع على تنمية الأراضى الصحراوية المترامية الأطراف بتسهيل الحصول على المعلومات اللازمة عن هذه الأراضى بما لا يمس الأمن القومى للدولة، وهذا يقتضى مسحًا شاملًا لجميع الأراضى الصحراوية وبيان المساحات المتوقع استغلالها مستقبلًا من قبل الدولة، والمساحات التى يمكن إتاحتها للشباب ورجال الأعمال لتنميتها، وتحديد نوع الإعمار المناسب لها حسب طبيعتها ومناخها وبما يؤدى إلى أن تكون مستقبلًا متناغمة مع ما حولها زراعيًّا أو صناعيًّا أو سكنيًّا، ولا بأس من تقديم تسهيلات للشباب لتشجيعهم على الاستصلاح والتنمية كمدهم بقروض ميسرة وتوفير الآلات اللازمة ومد الطرق عبر الصحراء لربطها بالمجتمعات الحضرية، وأعتقد أن منظومة الطرق التى أنشأتها الدولة مؤخرًا يسرت كثيرًا إمكانية تنفيذ ذلك.
ولا يتسع المقام لبيان ما جاء فى تراثنا الفقهى فيما يتعلق بحقوق الدولة وحقوق الأفراد أو المؤسسات وطبيعة العلاقة بينهما فى هذا الإطار، لكنى أعتقد أنه لا مناص عاجلًا أو آجلًا من التوسع فى استخدام هذه الآلية لانطلاق غزو الصحراء وتحويلها إلى واحات خضراء ومدن حضارية تناسب عراقة بلدنا وتاريخه، وحبذا أن يتم ذلك بسواعد أبنائه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة