محمد حبوشه

مشاهد لا تنسى من وحى مرارة ضياع القدس!

الجمعة، 08 ديسمبر 2017 05:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى زحمة الخوف على ضياع القدس بقرار أرعن من جانب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، تذكرت هذه المشاهد التى لاتنسى من أحداث أيقونة الدراما العربية مسلسل  التغريبة الفلسطينية"، حيث يقف الأخ الأصغر "على" والذى يقوم بدوره الفنان المتوقد موهبة "تيم حسن" أمام جثمان شقيقه أحمد "أبو صالح" والذى أبدعه فى تجليات مرعبة الفنان القدير "جمال سليمان" بشاربه الكث الأبيض والشال الأبيض الذى يعكس نورانية تلك اللحظة، وفى تلخيص غير مخل يسرد جوانب المأساة الفلسطينية كلها محدثا نفسه بمرارة : "أبو صالح، يا خوى أبو صالح .. أنا على .. أخوك .. أخوك وإبنك، هسه بدى أقولك إشى : أنا لولاك ما صرت إشى، ياحبيبى يابو صالح، ياحبيبى ياخوى "، ثم يستعرض " تيم حسن " بصوته التاريخ المنسى للأب الروحى للنضال الفلاحى الفسلطيني، وبأسلوب الرواى يقول فى آسى موجع : "رحل الرجل الكبير، وتركنى وراءه أتساءل عن معنى البطولة، أخى أحمد، أبو صالح، لم تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات، ولم يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريبا يموت آخر الشهود المجهولين، آخر رواه المسنيين، أولئك الذى عرفوه أيام شبابه جوادا بريا لم يسرج بغير الريح، فمن يحمل عبء الذاكرة ؟، ومن يكتب سيرة من لاسير لهم فى بطون الكتب، أولئك الذين قسموا جسومهم فى جسوم الناس، وخلفوا آثارا عميقة تدل على غيرهم، ولكنها لا تدل عليهم .
 
وكأن كاميرا "حاتم على" مخرج العمل تعمد إلى أن تذكرنا بفلسطين كلها وعلى رأسها القدس "عروس عروبتنا المنسية" وهو يحلق ببراعته المعهودة ليغوص بليونة خاطفة تحت جلد القضية، وفى عمق هذا الجرح الغائر يفور الدم الفسطينى فواحا برائحة المسك والعنبر، مخلوطا بطعم المجد والخلود الأبدى لأولئك الذى فنوا فى سبيل القضية التى ماتزال تشكل وصمة عار على جبين العرب والعالم إلى يومنا الحالي، وكأنها تعيد من عام إلى عام ووصولا لانتفاضة جديدة تدق أبواب التارخ الآن، وكأنها "أسطورة سيزيف" التى يعاود فيها التقاطا الحجر من جديد دون جدوى الصعود و الهبوط. 
 
ارتعاشات الرعب ومرارة اللحظات المأساوية التى اعترت مجمل القضية تتجلى الآن ونحن نقف على أعتاب ضياع القدس من جديد وإلى الأبد بقرار همجى من جانب الرئيس الأمريكي، ضاربا عرض الحائط بكل المواثيق والقرارات الدولية فى غيبة من وعينا، ونحن الذين لم ندرك بعد تجليات الفعل التمثيلى لفريق عمل " التغريبة الفلسطينية " فى أداء بارع وارتجالى من نوع خاص لكل من الرائع جدا "باسل خياط "حسن"، الراحل الكبير خالد تاجا "أبو أحمد"، جوليت عواد "أم أحمد" بتنهيدتها القادمة من أعماق المأساة معبرة عن ذلك الجرح الغائر فى ذاكرتنا المنسية، يارا صبري "فتحية" فى عذاباتها التى لاتنتهى، نادين سلامة "خضرة" ذلك الحلم الغض الذى اغتيل قبل نضوجه، قيس الشيخ نجيب فى انحنائه لموجات الضياع "صلاح" مكسيم خليل "أكرم السويدي" الطبيب المتوقد طاقة وحيوية، سليم صبري "أبو أكرم السويدي" فى غرقه إلى حد الثمالة فى حب الوطن، حسن عويتي أ"بو عايد" المستغل البغيض لفتات ما تبقى من عرق الفلاحين، فضلا عن أداء استثنائى لنسرين طافش بدور"جميلة" والتى عبرت فيه بصوت شجى عن تلك الأنثى المسكونة بالعفة والعفاف، على رقة حالها وغلبتها على أمرها، مقهورة بتخلف عشيرتها، وبمزاج من عفوية وتلقائية الموهبة التى كانت تفوق سنها وخبرتها - آنذاك - كممثلة شابة استطاعت عبر ثلاثة حلقات فقط أن تبكينا بكاءا حارا يدمى القلوب على تلك الفتاة، رمز فلسطين سليبة الإرادة، ضائعة الهوى والهوية، ناهيك عن عذوبة أداء حاتم على مخرج العمل نفسه فى دور "رشدي".
 
كل ما سبق من مشاهد تجسدت بعفوية فى سياق فنى فنى بديع من خلال أيقونة الدراما العربية "التغريبة الفلسطينية" يؤكد بما لايدع مجالا للشك أن فلسطين باقية بقاء صلابة أهلها القابضين على جمر القضية، ورغم كل النوائب والخيبات، ستبقى القدس فى البال .. ربما هذا كل ما بقى فى ذاكرتنا العربية المهترئة نحو زهرة المدائن، بهية المساكن، المكللة بالغار وزهر الليمون، تلك التى تذروها رياح الحقد والغضب الأعمى، بعدما وقع المحظور، وعلى أثره اختلط الدم العربى بطعم برتقال يافا وزهور حيفا الموسمية، وغيرها من أشجار الفواكه المثمرة والحمضيات واللوزيات والعنب، بينما تقف شجيرات الزيتون العتيقة فى شموخ اضطرارى كشاهد حى على فعل الأبالسة من أبناء صهيون فى ( رام الله، الخليل، أريحا، بيت لحم، نابلس، الأغوار، وغيرها..) من أماكن تشهد على الصمود فى ربوع فلسطين السليبة أمام عجز العرب والمسلمين.
 
أغلب الظن أننا اكتفينا فقط بجلد الذات مع مطلع كل نهار عفى مخضب بصباحات ندية مصحوبة بمشاهد سوداوية، مرددين نفس موال الحزن والأسى" لأجل من تشردوا، لأجل أطفال بلا منازل، لأجل من دافع واستشهد فى المداخل، لكن دون جدوى، فقد استشهد السلام فى وطن السلام، وسقط العدل على المداخل، بعدما هوت مدينة القدس وهى الآن فى الرمق الأخير، وتراجع الحب، وفى قلوب الدنيا استوطنت الحرب، هكذا تغنت "فيروز" باكية حزينة على ماضاع، وبقيت القدس جرحا غائرا فى خاصرة العروبة البالية.
 
وها نحن الآن فى لحظة فاصلة من عمر الزمن نقف على قمة تلال الخذلان والضياع، وبما تبقى من نخوة عربية يعترينا شموخ زائف مكلل بالعار جراء انتهاكات العدو، وهو يضرب حصاره الرهيب بمزيد يومى من الأسلاك الشائكة التى تمتد بطول وعرض عالمنا العربى على صخرة الانقسامات الحادة وبلادته المعهودة تجاه أهم قضاياه المصيرية، معلقا كل أسباب الفشل على شماعة "أوسلو1و2" والرباعية الدولية تارة، ومجلس الأمن والجمعية العامة تارات أخرى، بعدما اكتظت أروقة المنظمة الأممية بالملفات الساخنة حول حق العودة التى كثيرا ما تغنى بها شعراء الأرض المحتلة والعرب جميعا على اختلاف أجيالهم، وعلى رأسهم "إبراهيم طوقان" فى نشيده الأبدى "موطنى" الذى تغنى فيه بالجمال والسناء والبهاء فى ربى فلسطين، مع كل السائرين على "جسرعودة هارون هاشم رشيد "، ومع ذلك فلا بقيت الحـياة ولا النجاة والهـناء والرجاء فى هواه، ولم يعد كما فى خيال "طوقان" سالما منعما غانما مكرما فى علاه.
 
وبعد أن كان الاستقلال حلم كل الشباب العربى من المحيط إلى الخليج أصبح الذل المؤبد والعيش المنكد يحل محل مجدنا التليد، تعلوه الراية البيضاء بخطين أزرقين، مرصعة بنجمة داود وهى ترفرف فى علا موطننا المحاصر، ومنذ أكثر من ستة عقود من الزمان تقف تلك الراية حائلا بيننا وبين حلم العودة المفقود - تحت غطاء مسموم من فتاوى الحاخامات - نحو المزيد من التهام الأرض والعبث بالتراث والهوية الفلسطينية، ومن عام إلى عام نغفو ونصحو على كارثة جديدة تدور فى فلك ترهات بناء الهيكل المزعوم، وعادة ما يبارك ذلك الزحف العنصرى قطيع الغربان الأمريكية والأوربية التى تعزف فى انتظام سيمفونية الخراب الكونى مستغلة لحظات الضعف والهوان العربى كتلك اللحظة السانحة لترامب بإعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل.
 
مرَّت بالقدس أحداث جسام وتعرَّضت للغزو غير مرة وصمدت فى وجه الجحافل من صليبيين ومغول وسواهما، ولكنَّ ما تعرَّضت له فى العصر الحديث كان فوق كل ذلك، نتيجة لتآمر الغرب الاستعمارى على العرب وخوفه من الوحدة الكبرى التى تُعيد لهذا الشعب الممزّق عصر الفتوحات والبطولات من جهة، وللخلاص من فئة تبحث عن وطن قومى لها رأى الغرب من الصعوبة بمكان أن تعيش من دون أذى بين شعوبه من جهة ثانية، وهى تمثلّ عنصر الشرّ وتبثُّ سمومها وأحقادها فى مجتمعاته وتنخرُها من الداخل، فوجد فيها فائدتين: التخلّص منها وإلحاق أضرارها بالمجتمع العربى الذى يمثّل المارد النائم الذى إذا استيقظ قد يمثّل خطراً عليه، فكان "وعد بلفور" المشؤوم فى الثانى من تشرين الثانى لسنة 1917، واستغلّت العصابات الصهيونية هذا الوعد، وعملت على تحقيقه فى ظلِّ الاحتلال البريطانى الذى تكفَّل بإنشاء الوطن القومى لليهود وعمل على تضييق الخناق على العرب فى المدينة المقدسة بوضع قوانين صارمة على البناء فى القدس الشرقية، ثم عمل على تحويل المدينة إلى عاصمة للدولة اليهودية، وسعت الوكالات الصهيونية إلى قلب الميزان الديمغرافى فى القدس لمصلحة اليهود، وهكذا إلى أن أصبحوا أغلبية فى المدينة، ولما انسحب البريطانيون من فلسطين كانوا قد هيَّؤوا لهم فرص الانتصار على العرب، فقامت العصابات الصهيونية بالمذابح الجماعية، ولا سيّما مذبحة "دير ياسين" التى كانت نقطة التحول، وقد قال عنها مناحيم بيغن: "لولا النصر الذى حقَّقناه فى "دير ياسين" لما كانت هناك دولة إسرائيل".
 
ثمَّ بدأت محاولات تنفيذ المخططات الصهيونية الخاصة بمدينة القدس لما لها من مكانة كبيرة فى الديانات السماوية الثلاث، وأولها تأهيلها لتكون عاصمة للدولة بدلاً من تل أبيب، ولذلك كان من الضرورى تغيير ملامحها العربية وإبراز الهوية اليهودية بالقوة وترسيخ الادعاءات الباطلة، وساروا فى تنفيذ مخططاتهم فى خطّين متزامنين: ضمّ القدس إلى الكيان الصهيوني، وتهويدها، وهذا ما حدث للقدس الغربيّة فى عام 1948، ثم احتلّ الصهاينة القدس الشرقيّة، واستطاع "مناحيم بيغن" اقتحام المدينة القديمة فى صبيحة السابع من يونيو"حزيران" 1967، ودخلها "دايان" ليعلن أمام حائط المبكى: "لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة وعدنا إلى أكثر أماكننا قدسية، عدنا ولن نبارحها أبداً"، وواضح من هذه العبارات أن الصراع الحقيقى فى المنطقة أصبح وشيكا بعد احتلال المدينة احتلالاً كاملاً، لأنَّ طرفاً من الطرفين جاء ليبقى ويهيمن ويفرض إرادته على العرب والعالم، وهو لن يتنازل عن أى شبر من هذه المدينة التى استولى عليها، ومنذ ذلك الوقت عملت الجرافات الإسرائيلية على تغيير ملامح المدينة جغرافياً وديمغرافيّاً، وقد نجحت فى سعيها نحو التهويد الكامل وتصفية المؤسسات العربية.
 
وهنا لابد فى النهاية أن نذكر العرب جميعا عشية إعلان "ترامب" البغيض، بإنَّ مشكلة القدس مختلفة عن مشكلة أى مدينة أخرى فى العالم، وهى معقَّدة الخيوط، فعلى الرغم من صغرها نسبيّاً بين المدن الكبيرة فى العالم غير أنها تعجُّ بالأماكن المقدّسة عند أصحاب الديانات الثلاث، ولهذه الأماكن ذاكرة تاريخية تزيدها قداسة، ككنيسة القيامة والمسجد الأقصى وسواهما، ومن هنا يتوقَّع المرء أن يطول زمن الصراع على هذه المدينة، وأن جميع الحلول التى تقترحها هذه الجهة أو تلك ستظلّ حلولاً مؤقتة وموضعية، فالصهاينة لن يتنازلوا عن شبر واحد فيها، وقد حزموا أمرهم على ذلك، والعرب مسلمون ومسيحيون لن يتنازلوا عن منازل الآباء والأجداد من جهة، ولن يسكتوا عما يُصيب مقدساتهم ومعتقداتهم فى هذه المدينة من جهة أخرى .
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة