تردد صوته أكثر من مرة فى الشارع المزدحم، التفت له بعض المارة وأكملوا سيرهم، بيكيااا.. قالها بنبرة مميزة وأعادها بطريقة مختلفة ومرة أخرى بنغمة طويلة.. بيكيااا، توسطت الشمس قلب السماء ولم يزل النوم عالقًا بجفونى بعد ليلة طويلة غامت فيها روحى وأمطرت، تنبهت أنى اليوم لدى مهمة شاقة، لابد من التخلص من كراكيب مكدسة بلا انتظام فى شرفتى قبل أن يأتى المستأجر الجديد، لم يسمعنى رجل البيكيا فى المرة الأولى حين ناديته بصوت تكسرت على أعتابه الحروف، ناديته مرة ثانية وقد تدلى نصف جسدى من الشرفة فى انسيابية وليونة لاعبة جمباز، أشرت له بيدى ليصعد فأومأ برأسه وكأن بيننا اتفاق مسبق، يا ليت البشرية اكتفت بلغة الإشارة، كنا تجنبنا كل هذا الصخب وسوء الفهم، راقبته يتفحص أشيائى القديمة بلا اكتراث، يقلبها يمينًا ويسارًا ويضعها من بين يديه ثم يحملها ويسألنى برذاذ يتناثر من فمه، أهناك أشياء أخرى ؟ وكأن كل ذلك ليس له قيمة، طاولة مستديرة من خشب الجوز كنا نلتف حولها فى ليالى الصيف، نرص فوقها أكواب الشاى وفطائر تخبزها أمى وأطباق اللب و السودانى، خشب الطاولة تلتصق به رائحة الأيام الحلوة، وتلك الأباجورة المستوردة الحمراء ذات الزر الأبيض الألمانية الصنع وذلك قبل أن يفرض التنين الصينى سطوته الصناعية على العالم وقد انهكها الزمن فباتت لا تضىء إلا بعد أن أنكزها بيدى، ولوحة زيتية لفنان إيطالى مغمور طالما وقفت أتأملها وأنتظر اقتراب ذلك المركب الشراعى البعيد الذى لم يقترب يوما، ومفرمة لحم وصاجات كحك و مروحة أعلنت هزيمتها أمام عنجهية التكييف فتوقفت عن الدوران، الراديو الأسود الكبير بمؤشره المستدير، لازال يُصدر بعض الأصوات القادمة من الأثير، إذاعة الشرق الأوسط، وصوت العرب أيام كان للعرب صوتًا و إذاعة أم كلثوم، ولكن يبدو أن بائع البيكيا أتى من زمن أصم لا يحتفى إلا بصوت الضجيج، تابعته وهو يحمل كنزى قطعة بعد قطعة، وضع فى يدى ورقة تحمل رسم مئذنة ومسجد فاطمى، سألته قبل أن يرحل إذا كان يستطيع أن يحمل معه بعض الأمانى المتكسرة والأحلام القديمة، ابتسم الرجل وأغلق الباب خلفه بهدوء، بعد دقائق تردد صوته مرة أخرى.. بيكيا..بيكيا
روبابيكيا - أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة