عقد فى جامعة "لوفان الجديدة" فى بلجيكا على بعد نصف ساعة بالسيارة من العاصمة "بروكسل" المؤتمر الثانى للرابطة الدولية للأدب العالمى التى أسسها "تشاو بيشنج" أستاذ الأدب العالمى فى جامعة بكين، وذلك من التاسع عشر حتى الواحد والعشرين من شهر أكتوبر الماضى (2017) تحت العنوان المشار إليه عاليه.
وكان من الطبيعى أن يستهل المؤتمر بمحاضرة عامة لمؤسس الرابطة، الأستاذ الدكتور "تشاو بيشنج"، حيث أشار فيها إلى التوجه الغربى العولمى لدرس الأدب العالمى فى جامعات الصين الشعبية، وهو الأمر الذى يمثل تحولا لافتا بإزاء التوجه الوطنى فى الصين الشعبية ونظرتها للآداب الأجنبية حين بزغ الاهتمام بالأدب المقارن فى الجامعات الصينية فى أوائل الثمانينات، فقد كانت من أولى دوريات الصين الشعبية فى هذا المجال مجلة "كاورى" التى ترمز لأصداف بحرية نفيسة كانت تستخدم فى الماضى فى التبادل النقدى مع الخارج فى الصين، وعلى الرغم من هذا التوجه الأكاديمى العام الذى صار يسود الصين الشعبية حاليا، فإن دراسة لكاتب هذه السطور قد ترجمت عن الانجليزية إلى الصينية وصدرت عن دار نشر جامعة بكين تحت عنوان: تحرير الأدب العالمى من هيمنة المعيارية الغربية.
انقسم مؤتمر جامعة "لوفان الجديدة" الفرانكوفونية إلى محاضرات عامة أربعة مدة كل منها ساعة كاملة، وهى لكبار الباحثين على مستوى العالم، وست وعشرين بحثا فرعيا فى أقسام متخصصة لشباب الباحثين.
ولا تسمح المساحة هنا سوى لعرض ما تناولته المحاضرة العامة التالية للمحاضرة المشار إليها لمؤسس الرابطة الدولية للأدب العالمى وهى لكاتب هذه السطور نظرا لأن له إنتاج بحثى فى مجال نقد التبعية الثقافية للمعايير الغربية فى بلاد ما يدعى خطأ "العالم الثالث"، وذلك فى ست لغات أوربية فضلا عن العربية والصينية، وكان موضوع محاضرتى العامة فى المؤتمر: جدلية العلاقة بين الآداب الأوربية والعربية فى العصر الحديث، حيث تعرضت فيها لتلك العلاقة المتشعبة بين ثقافاتنا العربية منذ أوائل القرن التاسع عشر، وثقافات الأوربيين المعاصرين لنا مبينا شعاب تلك العلاقة منذ أن حاول مارون النقاش أن يقدم فى داره فى بيروت فى عام 1847 مسرحية "عربية" على غرار تمثيلية البخيل لموليير الفرنسى، وكيف كان إعراض الجمهور العربى عن تلك التجربة سببا فى انتكاس مارون النقاش. ولعل مرضه ووفاته المبكرة فى سن الثامنة والثلاثين كان متصلا بفشل تلك التجربة.
وعلى الرغم من ذلك فقد حرص مؤرخو المسرح العربى "الحديث"، وعلى رأسهم الراحل محمد يوسف نجم، على الاحتفاء بتلك التجربة الفاشلة كأول محاولة لتقديم المسرح الأوربى باللغة العربية.
حدثت تجربة مارون النقاش بعد أن كان رفاعة رافع الطهطاوى قد عاد من إمامته لمبعوثى دولة محمد على لباريس للتخصص فى مختلف مجالات العلوم والفنون بكتابه الذى قدم فيه وصفا للحياة فى العاصمة الفرنسية دعاه: تخليص الإبريز فى وصف باريز.
فعلى الرغم من أن الطهطاوى قد قدم فى كتابه هذا، ولازال فتى يافعا فى منتصف العشرينات من عمره، مختلف الفنون والصنائع التى تفوق فيها الفرنسيون، والتى لم يكن للأزهر باقتصاره على علوم الدين وبعض الحساب والجبر حظ يذكر منها، إلا أن الطهطاوى كان فى وصفه لمعالم الحياة الباريسية غير منبهر بها، وإنما "موضوعيا" فى سرد ما يراه خيرا فيها، وما لا يعجبه فيها بالمثل.
وقد أرجعت فى محاضرتى هذا الموقف العقلانى المتزن من جانب الطهطاوى كونه صادرا عن بلد كان له مشروعه التنموى المنافس للحضارات الأوربية فى عصره، حتى أن حدود مصر فى نهاية العقد الرابع من القرن التاسع عشر قد وصلت لمنتصف آسيا حتى منتصف أفريقيا! وهو ما حدا بالدول الأوربية لأن تقف ضده وتسعى لإجهاضه متلاحمة فى ذلك مع الباب العالى آنذاك.
على أن اطلاع الطهطاوى على الحياة فى باريس آنذاك حدا به بعد عودته من العاصمة الفرنسية لأن يستكشف ما كان يوازيه فى حياة المصريين القدماء من تشريعات وتنظيمات، وفنون وصناعات لم تتح له دراسته الدينية فى الأزهر متابعتها، وإنما كانت تجربته الباريسية دافعا لأن يستكشف فى بلده أسس تقدم الأمم من تشريعات وصناعات، وبعبارة أخرى كان التعرف على الآخر خير دافع للتعرف على الذات الحضارية السامقة التى بدأت على ضفاف النهر فى مصر، والتى سعت لاستعادتها دولة محمد على التى اختارها المصريون آنذاك.
من هنا كانت "جدلية" العلاقة بالآخر المتقدم فى إعادة التعرف على الذات من خلال مثال آخر ضربته فى محاضرتى لاستيعاب مسرح "برخت" فى مصر ، حيث كانت أنجح العروض المصرية والعربية بوجه عام للمسرح البرختى فى الستينات هى التى لم تقتف أثر برخت حرفيا، وإنما استلهمته فى إعادة اكتشاف التراث المسرحى الشعبى فى مصر وسائر الأقطار العربية، مسرح سعد الله ونوس فى سوريا الشقيقة، وعبد القادر علوله فى الجزائر، ومسرحية "بغل البلدية" ليسرى الجندى فى دمياط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة