فى مغارة العذراء بدرنكة.. أمنيات البسطاء وطلبات بالإنجاب والشفاء.. سر صلوات الأنبا ميخائيل التى هزت صخور الجبل
تلقى يوسف النجار، بشارة العودة إلى فلسطين، مات من يطارد العائلة، هيرودس انتهى، وأغلقت صفحة المطاردات وكتب المسيح الفصل الأخير فى قصة هروبه، ارتحل الركب من جبل قسقام المسمى بالدير المحرق، وعادوا لركوب الدواب مرة أخرى، حتى إذا بلغوا جبل أسيوط الغربى، فاستقروا فى مغارة عالية يعدون العدة للعودة إلى بيتهم فى أورشليم، ويركبون من جنوب مصر إلى شمالها مركب الوداع، يباركون النيل الذى حافظ على السر، يربتون على الأرض، التى آمنتهم من خوف، يصير للناس من بعدهم فيها خيرًا ورزقًا وبركة. فى كل نقاط الرحلة، ستبنى الكنائس، وتشيد الأديرة، تقام الاحتفالات، تكتب الطلبات، وترفع الأكف ضراعة، فى هذه الأرض التى داستها خطى المسيح، ومسحت فيها العذراء دموعه، ستروى آلاف القصص وتتردد ملايين الحكايات عن العائلة الغرائبية، التى تركت نبعًا من الخير لا ينضب.
لا يستغرق الطريق إلى دير درنكة بجبل أسيوط، إلا خمس عشرة دقيقة، تقطع بها السيارة شوارع عاصمة الصعيد، حتى أطرافها، يظهر الجبل من بعيد فى المواجهة، يتأهب لرواية باقى الحكاية، تعلوه مقابر أقباط المدينة، ورثة العذراء الذين أحبوا أن يدفنوا جوارها، صلبان منحوتة فى صخر الصعيد الصلب، قباب تجاور فوهة الجبل، ثم نقاط عسكرية لجيش تمرس على حماية الصحارى، حتى تبلغ بوابة الدير المكتظة برجال الشرطة المتمرسين خلف سياراتهم المكتظة بالجند.
نعبر البوابة الأولى، نصف السيارة على اليسار، ونصعد سيرًا على الأقدام فى طريق أسفلتى إلى أعلى، الصعود إلى الجبل يشبه إلى حد كبير صعود الحجيج إلى جبل عرفات، تبة عالية ومسافة طويلة يقطعها الزائر سيرًا على الأقدام تطوعًا ومحبة فى أم النور، وفى الهواء تسرى أصوات الترانيم، تمجد فى صاحبة الدير وربة البيت كله، السلام لك يا مريم يا تابوت عهد النعمة.. السلام لك يا مريم يا ثمرة لذيذة طعمة».
أعلى الجبل، نقابل شبابًا جاءوا فى رحلة من إحدى كنائس أسيوط، تجمعوا لقضاء خلوة روحية بالدير، فى نهاية الأسبوع، يبيتون فى تلك الغرف الصغيرة المتراصة على جانبى جبل المغارة، ويقضون أيامًا فى الصلاة والذكر والتعبد قبل الانخراط فى الدراسة الجامعية، التى بدأت الشهر الماضى.
أجراس الكنائس تدق، تعلن بدء القداس فى السابعة صباح كل يوم، تسبقه أصوات ترتيل الإنجيل، التى يقرأها الرهبان فتملأ المكان جلالًا ورهبة، ويتأهب الطلاب للسير نحو الكنيسة.
فى الطريق إلى كنيسة المغارة، محال صغيرة تبيع منتجات الدير تتسمى بألقاب العذراء، محل الطيور يسمى بالحمامة الحسنة وهو اسم للعذراء فى الإنجيل، ومحل المنتجات الحيوانية يسمى بأم النور، أما محل البقالة فيسمى الممتلئة نعمة، وهو اسم للعذراء أيضًا ذات المائة وخمسين لقبًا، تشعر بأن كل الأماكن والأسماء والصور تكتسى بها وهى تحاول أن تنال من فيض بركتها.
تصعد فى الجبل أكثر، كنائس كثيرة حولك، ترى كنيسة المغارة، موطأ قدم العذراء وطفلها المسيح، ويوسف النجار مرشد الرحلة ودليلها.
داخل المغارة، مجسم للعذراء، تقف بزيها الأزرق، تفتح ذراعيها لزوارها حبًا ونورًا، تزغرد لها سيدة «شا الله يا أم النور شا الله يا عدرا مريم» تخرج من حقيبتها عقدًا طويلًا، صنعته بأيديها من ورد وياسمين، تلبسه للعذراء وتزغرد لها، تعدها أن تصنع لها عقدًا من الجنيهات العام المقبل، يقول زوجها مخاطبًا العذراء «لو أملك أعملك عقد دهب يا عدرا».
من السقف تتدلى صور العذراء، وقديسين كثر، استشهدوا فداء للمسيحية فى حروبها الكثيرة مع الوثنيين، وعلى اليمين ترى أحواضا ثلاثة كبيرة محاطة بالرخام، يعلوها الصليب الخشبى، تجاورها آنية ألومنيوم صغيرة تمتلئ بزيت الميرون المقدس، الأحواض مخصصة لطقس التعميد، يدخل من خلالها مواليد جدد إلى المسيحية بعدما يغطسون فى الماء بيد الكاهن ثلاث مرات، وتدهن أجسادهم بزيت الميرون.
وعلى العكس من كل الكنائس، التى يوضع الهيكل فى آخرها، ينتصب هيكل كنيسة المغارة فى منتصفها محاطًا بسياج خشبى، يقف أمامه الأقباط يتضرعون.
يسار الهيكل، ترى طابورًا طويلًا، أمام مزار مغلق بسور حديدى آخر، وحوله خدام الكنيسة ينظمون الصفوف، هو مزار العذراء، وجحر اختبائها، بداخله صورة أثرية لها وورود وحمامتان محبوستان ولا يفكران فى الطيران بعيدًا عنها، وصندوق نذور خشبى يضع فيه العاشقون النذر ويطلبون مطالبهم من شفيعة المستحيلات فيلبى الله، جوار صندوق النذور أوراق صغيرة، مطالب وأسرار الزوار، كتبوها على ورق، سجلوا أمانيهم، أخرجوها من القلب إلى الورق حتى تشهد العذراء على توسلهم لها.
فى أوراق المصريين، ورسائلهم إلى العذراء أمنيات بسيطة، ومطالب بالرحمة والشفاء والحب، تشير أم مينا، إلى فتاة متعلمة أن تكتب لها خطابًا إلى العذراء، تملى عليها «مينا يحب أمه زى ما المسيح حب مريم»، أما مايكل، يكتب «أنا وميرا تتحل مشاكلنا ببركة العذراء ونفضل مع بعض على طول ببركة أم النور آمين»، فتعلم أن خلافات تدب بينه وبين خطيبته تستلزم تدخل العذراء لحلها.
وعلى يسار المغارة، مغارة أخرى يتكرر فيها المشهد نفسه، وتختلف أيقونة العذراء داخلها عن التى تضمها المغارة الأخرى.
جوار المغارة، نقابل الراهب القس لوقا الأسيوطى، أمين الدير منذ سنوات طويلة، يروى لنا قصة مغارة العذراء، يقول بأن المغارة تعود لعصر الفراعنة الذين فرغوا الجبل من الحجارة، يختبئون فيه من أثر الفيضان قبل 4500 سنة من الآن، وحين جاءت العائلة المقدسة إلى مصر، سكنت هذا التجويف الحجرى، حيث كانت أسيوط فى هذا الوقت عاصمة الإقليم، وقررت العائلة المقدسة أن تستقل مركبًا منها وتعود إلى فلسطين مرة أخرى.
«وجود العائلة المقدسة بين أهالى درنكة ارتبط بالظواهر النورانية والمعجرات»، يؤكد القس لوقا ويضيف: «وحين غادر الركب المقدس أقيمت أول كنيسة فى هذا المكان وهى كنيسة المغارة بالقرن الأول الميلادى، ولم تكن كنيسة كما هى الكنائس حاليا إنما كانت كنيسة بمعناها الروحى تقام فيها الصلوات والابتهالات».
يشير الراهب إلى أن دير العذراء يستقبل مليون زائر سنويًا فى احتفالات صوم العذراء منتصف أغسطس من كل عام، حيث يتولى خدام الكنيسة والمتطوعون تنظيم عمليات دخول وخروج الزوار، بينما تتولى وزارة الداخلية العمل خارج الدير بخدمات أمنية.
«حين ظهرت حركة الرهبنة فى القرن الرابع الميلادى بمصر»، يوضح الراهب الذى يسرد تاريخ الدير ويضيف: تحول هذا المكان إلى دير، وظهر بجبل درنكة أكثر من دير ظل دير درنكة عامرًا بالرهبان واندثرت بقية الأديرة، ولكنها مدونة بالتاريخ القبطى، لافتًا إلى أن دير درنكة كان يسمى بدير الرهبان النساخ، حيث كانت حركة نسخ الكتب مزدهرة فيه.
إلى جوار كنيسة المغارة، يرقد جسد الأنبا ميخائيل مطران أسيوط الذى رحل منذ ثلاث سنوات، وكان يلقب بشيخ المطارنة، حيث جرى ترسيمه أسقفا على أسيوط عام 1927 بيد البابا يوساب الثانى، فكان أقدم مطارنة الكنيسة الأحياء حتى رحل، ويذكر أنه كان يرفض الصلاة خارج إبراشيته حتى إنه رفض تلقى العلاج فى الخارج حتى توفى، ودفن إلى جوار مغارة العذراء، كما أوصى قبل وفاته.
خصص الدير إلى جوار ضريحه، متحفًا صغيرًا لمقتنياته، على اليمين ترى، «التونيا» البيضاء التى كان يقود بها صلوات الاحتفالات والأعياد، إلى جوار ملابسه السوداء وهى ملابس النسك، وعمامة المطران، ومقتنيات قليلة تركها رجل زاهد لم يسع إلا إلى خدمة شعبه فأخلصوا له، وتزاحموا أمام مزاره.
ترى سيدة تلقن ابنها الصغير السلام على القديس والصلاة أمامه، وتلمح رجلًا، يركع على قبره ويقبله، وسيدة تصيح «خليك معانا يا سيدنا ميخائيل»، فوق ضريحه ترك الناس أمنياتهم فى أوراق صغيرة تمامًا كما فعلوا مع العذراء.
فى مزار الأنبا ميخائيل نقابل المقدس رويس، رجل سبعينى يحفظ حكايات الدير عن ظهر قلب، يقول إنه أثناء أعمال تجديد الدير، التى كان يقودها الأنبا ميخائيل منذ سنوات، صعد بلدوزر عملاق إلى الجبل، ثم انقلب براكبه، وهرع الرهبان لمساعدته وفوجئ إنه حى يرزق، ببركة العذراء، التى جاء ليطور ديرها ومزارها.
أما القصة التى يرويها كافة أهالى أسيوط، ممن يحبون الدير، فهى صلاة الأنبا ميخائيل، التى حركت صخور الجبل، يقول المقدس رويس، إن أعمال تطوير الدير كانت تواجه صعوبات فى الجبل الوعر، دفعت الأنبا ميخائيل للاستعانة بلجنة هندسية لإزالة صخرة عالقة تعوق عمليات التطوير، وأخبرته اللجنة أن الصخرة لن تسقط إلا بتفجيرها بالديناميت مما يعرض مغارة العذراء الأثرية للخطر، فرفع الأنبا ميخائيل الصلوات حتى سقطت الصخرة فجأة وتحركت من مكانها.
نغادر الدير، ممتلئين بحكايات العذراء المدهشة، وكأنها فيض لا يجف أبدًا، فى كل مزار معجزة، وفى كل كنيسة قصة، نعود إلى أسيوط، نتأمل النهر الذى ركبته العائلة المقدسة مرة أخرى فى رحلة العودة.
استقل الركب الدواب لآخر مرة، تركوه على ضفة النهر، رفعت العذراء ذيل ثوبها، وأمسكت بيد المسيح، الذى صار طفلًا قادرًا على المشى والكلام، وساعدهما يوسف النجار فى الهبوط إلى المركب، وخلفهم سالومى، من أسيوط، يرتحلون شمالًا إلى مصر القديمة، كنيسة أبو سرجة مرة أخرى، يبيتون فى مغارتها عدة أيام، قبل أن يعبروا حدود بلادنا إلى فلسطين، يبدأ المسيح هناك مرحلة جديدة فى دعوته، يعلم كهنة اليهود فى الهيكل فى طفولته الفذة، وينقذ سيدة من الرجم فى شبابه، ويترك تلك التعاليم الخالدة، التى تغير بها وجه الإنسانية، كما غيرت خطواته تاريخ بلادنا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة