غادر الركب المبارك صحراء وادى النطرون القاسية، واتجه صوب القاهرة.. حط جوار عين شمس الحالية، مدينة «أون» الفرعونية القديمة، تمر فيها العذراء فتختار عين ماء تجلس جوارها، تغسل فيها ثيابها، وتلقى ما تبارك من ماء غسيلها على الأرض، لينبت الله به شجرة من نبات البلسم، لتطييب جروح من قصدها من هذا الزمان وحتى اليوم.
ننزل من محطة مترو المطرية، نسأل الناس على الشجرة، الشجرة صارت مزارًا سياحيًا تديره وزارة الآثار، كل العابرين يعرفونها، نصل إليها سيرًا على الأقدام بعدما يدلنا الناس عليها، نقطع تذاكر للدخول، ونعود لعالم العذراء الملىء بالحكايات والأسرار.
سور خارجى حفرت عليه آيات من سورة «مريم»، وأخرى من الإنجيل المقدس تمجد العذراء، وتمهد الطريق لشجرتها التى تحيطها الأساطير منذ أن نبتت وحتى اليوم.. فى البداية تستقبلك السيدة العذراء بزيها الأزرق، مريم فى صورة «التجلى»، تمثال حديث وضعوه فى المدخل ليرشد إلى جدارية أخرى تظهر فيها مريم وخطيبها يوسف النجار، يحممان المسيح الطفل جوار البئر الأثرية التى استقرت جوارها العائلة قديمًا، فحممت فيه الطفل وغسلت ملابسها.
البئر التى مازالت ممتلئة بالمياه، تحوطها عائلة من النساء، يبدو من ملابسهن وهيئتهن البسيطة أنهن من أهل الدلتا، الأم وقد ارتدت عباءة مزركشة، ووضعت على شعرها غطاء قماش، وابنتها التى تناديها بـ«ماريان»، يحاولن مد أيديهن فى البئر التى تبدو مياهها غير نظيفة، وهن يهتفن «شالله يا عدرا شالله يا أم النور»، حول البئر ما يشبه الكهف، قال الموظف المسؤول إنه بنى حديثًا للحفاظ على هذا المكان المبارك.
من البئر صارت النساء الباحثات عن البركة نحو الشجرة، والشجرة محاطة بسور دائرى صغير، يضم ثلاثة أجيال منها، الأول كان لجذع الشجرة الأصلية، وهى التى استظلت بها العائلة المقدسة، ثم لشجرتين أخريين أنبتهما الناس للحفاظ على سلسلة الشجرة الأم.
«ماريان» التى حاولت مس مياه البئر، وضعت يدها على الشجرة وهى تطلب من العذراء أن تمنحها طفلًا، حيث عرفت تلك المنطقة بمنح النساء القدرة على الإنجاب.
على الشجرة نفسها، كلمات وحروف لاتينية تبدو كأنها تذكار كالذى يكتبه المصريون على الآثار لتخليد ذكراهم، دون النظر لتشويه الأثر.. يقول «المقريزى» إن جنود الحملة الفرنسية حرصوا على تسجيل أسمائهم بأسنة السيوف على تلك الشجرة فى أثناء غزوهم لمصر.
على مقربة من الشجرة، قاعة عرض أو متحف صغير يضم أيقونات أثرية عن رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، من بين معروضاته حجر منحوت قيل إن العذراء كانت تستخدمه لتحميم المسيح الطفل.
نغادر منطقة الشجرة، ونبحث عن أقرب كنيسة، فى شارع مجاور يسمى شارع البلسم كنيسة تحمل اسم العذراء مريم، استقبلنا كاهنها القس برسوم شاكر الذى يخدم فيها منذ العام 1992، وروى قصة الشجرة، فقال إن العذراء باركت تلك المنطقة، ولم يعرف على التحديد بأى نقطة وقف ركب العائلة المقدسة فى منطقتى المطرية وعين شمس، إلا تلك المنطقة المجاورة للشجرة، حيث البئر التى شربت منها العذراء، وغسلت فيها ملابسها.
«كل الشوارع المحيطة بشجرة مريم تُسمى بأسماء تخصها»، يقول القس برسوم: نحن فى شارع البلسم، وهناك شارع يسمى البلسان، ويعنى البلسم أيضًا، وشارع ثالث باسم شجرة مريم، ورابع باسم بئر مريم، حتى أن المسلمين بنوا مسجدًا بالمنطقة سموه مسجد شجرة مريم.
الشجرة الأم سقطت منذ سنوات طويلة، يؤكد القس برسوم، لكن الكهنة الذين يتعاقبون على الخدمة بمنطقتى عين شمس والمطرية، اعتادوا أن يأخذوا فرعًا من الشجرة الأصلية لينبتوا به شجرًا أصغر، فلا تنقطع سلالة البركة عن مصر.
يؤكد القس برسوم قصة نبات البلسم التى أوردها «المقريزى» فى وصفه لتلك المنطقة، يقول إن العذراء حين حمت المسيح، أزهرت الشجرة نبات البلسم الذى كان يُهدى للملوك والأمراء آنذاك، ولم يعد يزرع بمصر حاليًا.
يروى القس برسوم حكاية جنود الحملة الفرنسية الذين أرادوا قطع الشجرة فسال منها الدم، فاكتفوا بتسجيل أسمائهم عليها، أما العذراء فكانت قد طلبت خبزًا من أحد سكان المنطقة، وحين رفضوا إعطاءها، توقف العجين عن الاختمار فى أحد الشوارع المحيطة، الذى لم يستدل القس عليه.
القس برسوم يوضح أن قصة اختمار العجين غير متفق عليها، لكن هناك من يرجح أن العجين لا يختمر فى أحد أيام السنة فى هذا الشارع، الذى لا نعرف له اسمًا، ولكنه يحيط بالشجرة.
نترك الشجرة العجيبة والحكايات المدهشة التى ارتبطت بها، فخلقت حولها عالمًا أسطوريًا، ونتجه صوب منطقة الجمالية، التى يتخفى فيها التاريخ القبطى خلف مآذن مساجد القاهرة الفاطمية، وقد حظيت بزيارة العائلة المقدسة التى حرصت على أن تتخفى فى مناطق مجهولة، فلا يكتشف أحد أمرها، فيصل الأمر إلى هيرودس، الملك الذى سارت العائلة كل ذلك هربًا منه.
نبلغ شارع بورسعيد، ونسأل عن منطقة الخرنفش، يدلنا أحدهم على حديقة خالية من الزهر على يمين الشارع المكتظ بالسيارات والباعة، ننزل ونسأل عن حارة زويلة، فيقول قهوجى المقهى الذى يقبع على ناصية الشارع: «بتسألوا عن الدير؟»، نجيبه نعم، يقول إن الراهبات لا يستقبلن إلا النساء.
يصف لنا الرجل الطريق إلى ما وصفه بالدير، نمشى من زقاق إلى آخر حتى نبلغ بوابة إلكترونية، نعرف منها أن الكنيسة هنا، نسأل أمين الشرطة، يقول إنها كنيسة العذراء بحارة زويلة، وجوارها دير مار جرجس للراهبات، ودير العذراء مريم للراهبات أيضًا، نمضى إلى داخل الكنيسة، يستوقفنا رجل بملابس مدنية ويسأل عن الكاميرات التى نحملها.
نبرز له هوياتنا، فيطلب تصريحًا مكتوبًا من وزير الداخلية شخصيًا، نعتقد أنه يمزح، فنسأل عن كاهن الكنيسة، القس متياس، يقول إنه خرج منذ دقائق ولن يعود اليوم، وبعد مفاوضات معه، ينصحنا بأن نعود للقس مرة أخرى فى السادسة مساء، ويوافق على منحنا رقمه لنهاتفه ونستأذنه.
على الهاتف يرد القس متياس بمودة كبيرة، ونشكو له «عم فايز»، رجل الحراسة المتعنت، لكنه يبرر له بثقل المسؤولية بعد تكرار استهداف الكنائس فى الفترة الأخيرة، وتشديدات وزارة الداخلية على جميع أفراد الأمن الإدارى التابع للكنيسة.
فى الموعد المحدد يرحب بنا القس متياس عبدالصبور بمودة كبيرة، ويفتح باب الكنيسة أمامنا، ويقول إن الكنيسة حظيت بزيارة من العائلة المقدسة التى مرت من هنا عبر شارع الخليج المصرى، الذى كان عبارة عن فرع من النيل، مجرد ترعة صغيرة عبرت منها العائلة المقدسة فى طريقها إلى مصر القديمة دون أن يعرف على التحديد فى أى مكان حطت، وكم المدة التى قضتها.
فى القرن الرابع الميلادى بدأت حكاية تلك الكنيسة العتيقة، يقول القس متياس الذى يقدم لنا الشاى فى مكتبه، قبل أن ندخل ساحة الكنيسة، ويستكمل: كان هناك رجل ثرى قبطى يسمى الحكيم زيلون، اختار تلك البقعة فى القرن الرابع، وقرر بناء كنيسة فوقها، تيمنًا بزيارة العائلة المقدسة لها، وسميت باسم «العذراء حالة الحديد»، تخليدًا لمعجزة حدثت مع القديس متياس فى أثناء حياة السيدة العذراء على الأرض، مؤكدًا أن الكنائس قديمًا كانت تحمل أسماء المعجزات، حيث حدثت تلك المعجزة فى آسيا الصغرى، حين كان القديس متياس يمارس التبشير فى بلدة هناك، ودخل السجن، وحين سمعت العذراء ذلك، صلت لربها أن ينقذه من سجنه، فانصهر حديد السجن، وخرج منه القديس بصلوات العذراء.
يأخذنا القس متياس فى جولة داخل الكنيسة المنخفضة عن الأرض قليلًا، يفتح القس باب الكنيسة فينفتح خلفه باب للتاريخ، وتشعر كأنك فى مسجد فاطمى، تسمع منه بسهولة صوت المياه الجوفية تناسب فى الأرض، وتحيط الكنيسة من كل اتجاه، وتشم فيها روائح البخور الكنسية التى يشعلها الكهنة كل صلاة، فيختلط فى ذهنك الماضى بالحاضر.
الكنيسة العتيقة تزدحم بالأيقونات الأثرية، والنجف القديم، والعمارة الفاطمية، وتوليها وزارة الآثار عناية خاصة، وهى إحدى كنائس قليلة ظلت صامدة فى منطقة القاهرة الإسلامية، إلا أن القس متياس يؤكد أنها كانت مقرًا للكرسى الباباوى أكثر من ثلاثة قرون، أى أنها كانت تساوى الكاتدرائية المرقسية فى العباسية فى عصرنا الحالى.
يلفت القس متياس إلى أن كنيسته تعرضت للكثير من الهجمات فى زمن الفاطميين، كان أبرزها عام 1113 م، لكنها ظلت صامدة ببركة العذراء، وبتلك المعونة التى تمنحها العائلة المقدسة للأماكن التى مرت بها.
فى صحن الكنيسة عدد هائل من الأعمدة الرخامية والحجرية، ولكل منها تاج يزينه فى نهايته، أعمدة من عصور مختلفة تشهد على كل تلك الحضارات التى عبرت أرض مصر.. بين الأعمدة تاج فرعونى، وآخر إغريقى، وثالث رومانى، ورابع قبطى يتزين بالصليب والحمام، وعمود خامس إسلامى الشكل، وفى السقف صليب نحاسى معلق فى قلب الكنيسة يسمى «صليب الصلبوت»، يظهر عليه السيد المسيح، ورموز الأناجيل الأربعة، إلى جانب ذلك فإن الكنيسة تضم معرضًا لمقتنيات الباباوات كانت مسؤولة وزارة الآثار تضع فيه مادة لحمايته.
ونحن نتجول فى الكنيسة، ككل الأماكن التى زارتها العائلة المقدسة، فإن الكنيسة تحوى بئرًا مازالت عذبة حتى اليوم، أنشأ القساوسة جوارها مزارًا للعذراء، وضع فيه الزوار أمنياتهم وأشعلوا له الشموع.
يفتح القس متياس أستار هيكل الكنيسة، ويزيح بيديه حجابها التاريخى، فيظهر ما يشبه اتجاه قبلة مسجد، يؤكد القس أن العمارة الإسلامية قد أثرت على كنيسته، وأن ما رأيناه فعلًا هو بناء لمسجد داخلها يشبه مسجد «بارصباى» بالجمالية، لأن العمال الذين عملوا على بناء المسجد هم الذين بنوا هذه الكنيسة.
فى منتصف جولتنا، نسمع صوتًا نسائيًا يمجد فى العذراء «السلام لك يا مريم يا فاضلة يا جليلة.. السلام لك يا مريم يا قوية وأمينة»، كانت راهبات دير العذراء أبى سيفين قد بدأن اجتماع صلاتهن الذى ينعقد فى منتصف النهار، وجاء الصوت من الكنيسة العلوية التى تطل شرفتها على كنيسة العذراء حالة الحديد.
نشكر القس متياس على جولته بالكنيسة، وأغادر إلى دير العذراء مريم للراهبات المجاور، أطرق الباب فيجيبنى عامل، ويرشدنى إلى الأم الراهبة التى تتولى استقبال الضيوف فى هذا اليوم، ترفض الراهبة التصوير كما ترفض الإدلاء باسمها، فالراهبات لا تغريهن الصحافة، ولا يبرزن فى الإعلام، تقول إن الدير مفتوح أمام الزوار لأن كنيسته الأساسية أثرية، ومن ثم لا يمكن غلقه، فالدير مصمم على شكل حرف «U»، تأتى الكنيسة فى منتصفه، وأسفلها كنيسة «العذراء حالة الحديد» التى سمعنا صلاتهن فيها، وسكن الراهبات من الناحية الأخرى.
تقول الراهبة إن الدير الذى تأسس حديثًا فى تلك المنطقة التى باركتها رحلة العائلة المقدسة، كان فى الأساس قاعة ملحقة بالكنيسة، ثم تحول إلى دير راهبات.. ترفض أيضًا أن تفصح عن عددهن فيه، ولكنهن يمارسن العمل اليدوى، مثل التطريز والمشغولات اليدوية، أما أعمال الزراعة وصناعة الجلود فتتم فى فرع آخر للدير بمنطقة النوبارية بمحافظة البحيرة.
«يوم الراهبة يبدأ فى الرابعة فجرًا بتسبحة منتصف الليل، ثم ينصرفن إلى العمل، ويصلين معًا قداس باكر فى السادسة صباحًا، وفى الظهيرة يصلين صلاة الشركة أيضًا» تقول الراهبة، وتضيف: نضع الفتيات تحت الاختبار عدة سنوات، قبل أن نقرر ضمهن للدير، طالبة الرهبنة تتردد على الدير فى البداية، وتعود لأهلها، ثم تصبح طالبة رهبنة، وتأخذ الشكل الرهبانى بعد أن نتأكد من ثباتها على هذا الطريق، لأنه لا رجعة فيه.
تلفت الراهبة التى كانت ترتدى ملابسها الرهبانية السوداء، وتنظر إلى صورة للعذراء معلقة فوقها، إلى أنها تصلى بفرح وسعادة كلما شعرت أن العذراء قد باركت هذه البقعة قبلها، فرسالتها مستمرة والراهبات نذرن قلبهن للمسيح، وجسدهن للبتولية، تشبهًا بالعذراء البتول قبل ميلاد المسيح وبعد ميلاده وفى كل الأزمان.
نغادر الدير الصغير، ونتجه صوب كنيسة «أبوسرجة» فى منطقة مصر القديمة، ونواصل رحلة اقتفاء الأثر.
الحلقة القادمة العذراء تتحصن بالمغارة وتهرب إلى المعادى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة