من المؤكد أن خريطة الفقر والفقراء تغيرت تماماً، بعد انخفاض قيمة الجنيه، والارتفاع الكبير فى أسعار السلع والخدمات خلال الأشهر الأخيرة، وارتفعت أعداد الفقراء فى بر مصر، ومن المرجح أن أعداد الفقراء بالميراث أو الفقراء الجدد ستشهد مزيداً من الارتفاع بعد تطبيق ضريبة القيمة المضافة، والاتفاق مع صندوق النقد، والذى قد يضمن مزيداً من التقشف فى النفقات العامة، وخفض الدعم على البنزين والكهرباء وبعض السلع والخدمات، إضافة إلى خفض قيمة الجنيه.
ارتفعت نسبة الفقراء فى مصر، بحسب تقديرات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، من %26.3 عام 2013:2012 إلى %27.8 عام 2014 :2015، وتركز الفقر فى محافظات الصعيد، وبلغ أعلى مستوى له فى أسيوط وسوهاج بنسبة %66!!. الأرقام مؤلمة لكنها الآن أصبحت جزءاً من التاريخ، لماذا؟ لأن خارطة الأسعار تغيرت تماماً، وطارت فى السماء، بينما الدخول ثابتة، كما أن تقديرات الجهاز المركزى التى أعلنت فى يوليو الماضى أصبحت قديمة لأنها تعتمد على نتائج مسح الدخل والإنفاق، والذى أجرى عام 2014: 2015، وقبل انخفاض قيمة الجنيه، وارتفاع الأسعار.
أضف إلى ذلك أن تقديرات الجهاز المركزى للفقر، تحاول تحسين الصورة على حساب حقائق الواقع القاسى الذى يعيشه أهالينا فى الصعيد والدلتا، بدليل أن الجهاز اعتبر أن الحد الأدنى للدخل الكافى للحياة الكريمة 482 جنيهاً للفرد شهرياً، ونلاحظ هنا أن الرقم متواضع للغاية، كما أنه لا يضع فى اعتباره عدد أفراد الأسرة وعناصر أخرى كثيرة، والأهم أن كمية السلع التى كان يمكن لهذا المبلغ أن يشتريها العام الماضى انخفضت حالياً بنسبة تزيد عن %30 على الأقل بعد انخفاض قيمة الجنيه مقابل الدولار، إذًا كيف يعيش الفقراء؟
بحسب بحوث ميدانية وتحقيقات صحفية شجاعة، هناك حيل كثيرة يلجأ إليها الفقراء وتوارثوها أو تعلموها من بعضهم.. فهناك من يقاطع شراء اللحم البلدى والمستورد، ويكتفى بشراء هياكل الدجاج أو العظام والدهن من الجزار!!، والمفارقة أن كيلو هياكل الدجاج ارتفع إلى أكثر من سبعة جنيهات، وفى بعض المناطق وصل إلى عشرة جنيهات!!، لذلك اكتفى بعض الفقراء بشراء أرجل الدجاج التى كانت تلقى فى القمامة. ويعتمد أهالينا الفقراء على الخبز المدعم والحصص التموينية والتى تحسنت كثيراً فى العامين الأخيرين، مع شراء الخضار واستخدامه فى إعداد أكلات رخيصة «أورديحى»، يعنى بدون لحم، وكل ذلك أرخص كثيراً من الوجبات الاستفزازية التى تقصفنا بها قنوات التليفزيون طوال اليوم فى إعلانات الأطعمة وبرامج الطبخ. ولا يقرب الفقراء الفواكه أو الأسماك بأنواعها إلا فيما ندر، وربما يشترون أسماكاً مجمدة أو فاكهة تالفة. وأحدث حيل الفقراء كتب عنها صديقى د.مسعد صالح على صفحته فى الفيس بوك وهى شراء الفقراء باثنين جنيه زيت مستخدم من محلات بيع الفول والطعمية لإعادة استعماله كبديل عن شراء زيت جديد.
حيل الفقراء كثيرة وربما لا أعرفها، ولا يعرفها أيضاً الباحثون والصحفيون، خاصةً أنها تشمل تعليم الأولاد والعلاج «استشارة الصيدلى وشراء شريط دواء وليس علبه كاملة» وشراء ملابس مستخدمة «البالة»، أو البحث عن متبرعين بالملابس أو الأحذية، أو التحايل للحصول على شنطة رمضان أو كيلو لحم فى عيد الأضحى.
كل هذه الحيل من وجهة نظرى سلوكيات تفرضها قسوة الحياة، وارتفاع الأسعار، لكنها لا يمكن أن تكون كما وصفها بعض الباحثين إبداعاً، لأنها تشبه الإبداع من زاوية الخروج عن المألوف والإتيان بشىء جديد غير متوقع، لكن أى إبداع يُفترض أن يحقق تقدماً أو تحسناً فى ظروف الحياة، وهو ما لا تحققه حيل الفقراء، فكلها لا تهتم بجودة الحياة، وإنما هى أنواع من التحايل للبقاء على قيد الحياة، لذلك فهى تنتج أطفالاً ضعفاء، غير متعلمين، وأنواعاً من المرض والحرمان المؤدى للجريمة بأنواعها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة