لقد ذكرنا في المقال السابق أن التجديد في التفكير الديني لا يُرَاد به معنًى واحد، ولا يشترط أن يكون قد سبق معناه وتحقق في الزمن السالف؛ إذ من معني التجديد الصحيح الذي نريده بل يريده كل عاقل سَوِيٍّ هو تغيير ما هو واقع سواء في الفكر أو غيره من معانٍ غير صحيحة في المفاهيم أو في الفهم أو في التطبيق لدي الفئات المتشددة والمنحرفة، حتي ولو كان بالرجوع إلي الفهم أو التطبيق الصحيح الذي كانت عليه الأمة قبل ظهور تلك النتوءات الغريبة (المتشددة) التي كدرت على الناس دنياهم ودينهم .
وهذا المعني الذي ذكرته،هو أحد أهم تفسيرات قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(أخرجه: أبو داود).
ولو وقفنا مليًّا عند التجديد بمعني الرجوع إلي الفهم الصحيح للنصوص لوجدنا أننا في أشد الحاجة إليه الآن؛ إذ إن أغلب وجُلَّ ما نعانيه من تشويه للخطاب الديني فضلًا عن التطبيق المشوَّه للنصوص الشرعية، إنما أتى من الفهم الخاطئ والمخطئ لتلك النصوص الشريفة التي عاش بها أسلافنا في اتساق مع النفس ومع الآخر،وتقدموا بأوطانهم،وازدهروا بحضارتهم، من خلال تلك النصوص بعينها، ولكن مع استقامة في التفكير، ونضج في الفهم، ووعي في الخطاب، وسلامة في التطبيق .
ثم جاءت شرذمة متطرفة ومنحرفة وتعاملت مع النصوص بغير تفكير مستقيم، فأصيب كل ما نتج عنها بخلل في المجالات المذكورة سابقًا، وأدى ذلك إلى وجود فوضى في التفكير الديني وما تبعه من خطاب، ومن ثمَّ مالت تلك الفئة بدون فهم إلي الصراع مع الآخر حتى الذي على دينه وملته، ولم تفهم أو تدرك أن التعايش مع بني الإنسان بل مع الكون كله مَبْنِيٌّ على التعاون والتكامل من منطلق قوله تعالى:( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ){المائدة:2} .
وبهذا الذي ذكرناه يتبين لنا أن الرجوع إلى الفهم الصحيح بعد أن تسلط عليه وشوهه من لا يفقهون - هو تجديد وتغيير للخطأ إلى الصواب ورجوع بالأمور إلى نصابها التي توارثته الأجيال من العلماء المخلصين عبر العصور .
وبمثل هذا الفهم في التفكير ينضبط العقل ويستقيم السلوك،وتتكون الذهنية العلمية الصحيحة التي تعرف أن الكون له سُنن ونواميس يجب الاعتبار بها والسير وَفْقَها حتى لا يتصادم الإنسان الطبيعي مع نفسه قبل أن يتصارع مع غيره، ومن هذه السنن: سنة وحدة الخلق، وسنة التعدد والتنوع والاختلاف، وسنة التمييز والتفاضل التي ينبني عليها سنة التكامل، وسنة الأخذ بالأسباب لتتحقق المسبَّبات، وسنة اتساق الوظائف مع الخصائص، وتدور كل هذه السنن في فلك سنة الابتلاء والاختبار التي أقيم الكون كله عليها، وذلك في قوله تعالي:( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)( الملك:2) .
إذا أدرك العقل هذه السنن وانطلق في تفكيره لدنياه وأخراه من خلالها تحقق بالغايات الثلاث الكبرى التي خُلق وتحمل التكليف من أجلها، وهي عبادة الله، وعمارة الكون، وتزكية النفس .
لقد كان أسلافنا العلماء ووراءهم عامة الناس يتحركون من منطلق فهمهم العميق لهذه السنن والنواميس بحيث لا تتصادم تلك السنن في تفكيرهم أو خطابهم، بل يخرجون من سنة لا تتفق وحالهم إلى سنة أخرى تساير أوقاتهم وظروفهم، ولكن من خلال سنة ثالثة هي وسيلة لتحقيق ما يسعون إليها وينشدونه من سعادة في الدنيا والآخرة، ومثال ذلك:أن يخرجوا من سنة الفتنة والاضطراب مثلًا إلى سنة الاستقرار والاطمئنان من خلال فهمهم لسنة التعايش، وأنها مبنية ضرورةً على سنة الاختلاف والتنوع؛ إذ لو فهم التنوع والاختلاف المحمود علي حقيقته لكان وسيلة لإثراء الفكر ونضج العقل وسَعَة العلم ومن ثَمَّ تقدم الأمم : ( وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)( العنكبوت:43).
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة