كما قلنا فى المقال السابق المجتمع شريك أساسى فى اتخاذ القرارات والحكومة العاقلة هى التى تحفز الناس على المشاركة فى شؤون البلاد. فتنمية الأوطان لا تتم ببطولة فردية ولا بمعجزة زعامة سياسية، ولا توجد دولة تقوم على أكتاف حكومة أو نظام، بل باختصار وبلا مبالغة تقوم الأوطان على أكتاف شعوبها، فتنمية الوطن مسؤولية وواجب جماعى يتشارك فيه القاصى والدانى، وكلما تعاون فيه الناس بإخلاص وإرادة وشعر كل فرد بمسؤولياته، وقام بأداء واجباته والتزاماته كلما وصل إلى التنمية المطلوبة ومستوى الحياة الذى يحلم به وتمتع الجميع بنتائج مجهودهم والتزامهم. وكلما اشترك فى هذه المسؤولية عدد أكبر من أفراد المجتمع نجحت، وكلما قلوا فشلت، لذلك كل الدول التى فشلت اعتبرت أن «اللامسوؤلية» هى السبب الرئيسى فى السقوط للقاع.
فاللامسوؤلية مرض معدٍ يحول أى مجتمع إنسانى إلى الفوضى والهمجية ويصبحون مع الوقت أشبه بالتجمعات الحيوانية التى غالبا ما تنقسم إلى أنواع بليدة وأنواع مفترسة. فيأكل الأغنياء الفقراء ويستبيح الفقراء الأغنياء وينقلب الناس على بعضهم البعض بلا منطق ولا عقل فلا تعرف بينهم حق من باطل أو حلال من حرام أو أخلاق من نواقص.
وأوجه اللامسوؤلية فى مصر متعددة ومخيفة تبدأ من الفساد، وتنتهى بالتجاهل ولا أحد يقاوم إلا نادرا، وكأن المجتمع كله تحول إلى مفسدين ومتفرجين والأعجب أن أغلب المتفرجين ينتظرون فرصة ليتحولوا إلى الفصيل الأول، حتى أصبح فى مصر أكبر سوق للفساد، أصبحت صفة فى الأغلبية ما بين مهنيين وحرفيين وأطباء وتجار وموظفين ومعلمين.فتجدها مثلا بضراوة فى استباحة المال العام ما بين الملايين من المسؤولين الكبار والصغار، فهذا فى المحليات وهذا فى التموين وهذا فى الصحة وهذا فى التعليم، نعم الدولة مسؤولة عن هذا الخراب، لأنها أهملت المتابعة والمراقبة واستمتعت بذلك، ولكننا أيضا شعب يهيم عشقا بالفساد نرعاه ونتولاه، ونبدع فيه بدون أى وازع ضميرى أو إحساس بالمسؤولية تجاه هذه الدولة التى تكاد تغرق من كثرة الأعباء والديون، نتفنن فى طرق الاختلاس والتربح واستغلال النفوذ ونبيع الأخلاق فى أى مزاد بدون أن ندرك أن أول مبادئ الالتزام والمسؤولية فى أى مجتمع هى الأمانة والشرف.
إن هذا الفساد هو سبب انتشار الفقر والجهل والمرض. وبالمثل تجد المهنيين والحرفيين على نفس الفساد، ولكن بأشكال مختلفة حتى أصبح من النادر أن تجد «صنايعى» أمين، وشاطر أو مهنى فاهم، ولا يورطك فى مشاكل، حتى المهن المقدسة أصابها الانحطاط فهذا محام يتلاعب بالقانون، وهذا طبيب يستغل مرضاه، ويمتهن عذابهم وهذا مدرس نسى رسالته التربوية وتخصص فى لعبة الدروس الخصوصية، أشكال مريضة ومشوهة تكاثرت فى مجتمعنا بشكل شيطانى، وغيرت شكل الحياة حتى صار كل ما حولنا قبيح، والناس اعتادت على هذا، إما مرغمة أو لأنها تستفيد منه، حتى التجارة فى مصر بمعناها التقليدى القائم على الأمانة وعدم المغالاة والاستغلال أصبحت غير موجودة، فنحن نغش ونستغل الناس فى كل شىء ومصيبة التضخم والغلاء الذى نعيش فيها الآن جريمة مشتركة بين دولة تركت السوق للاحتكار ونفوذ رأس المال وتجار استغلوا حاجة الناس ومصوا دمائهم للحصول على أى منتج بداية من السكر والأرز وحتى لبن الأطفال والأدوية، التجارة فى أى قطاع اقتصادى فى مصر أصبحت مريبة ومشوهة ومخيفة، كل هذا والمجتمع المدنى يشجب ويتفرج والدولة تندد ولا تتحرك، لذلك لن نرى النور إلا لو فهم الجميع أدوارهم وأخلصوا فيها، أما والحال على ما هو فلا أمل فى أى شىء، وليرحم الله مصر من أهلها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة