د. محمد على يوسف

دون تمييز ودون فوارق

السبت، 27 أغسطس 2016 11:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فارق دقيق ذلك الذى يفصل بين الموضوعية والتربص، بين النصيحة والتعيير، بين النقد والنقض، بين المنافحة عن وجهة النظر وبين محاولة فرضها ورفض وحقران (كل) ما دونها.. فارق دقيق وخيط رفيع للغاية قليل من لا يعبره ويمزق تلك الحواجز الرقيقة بين هذه الأمور المتباينة تمامًا، والتى رغم تباينها يسهل جدا الخلط بينها. يُتبين اختراق الحواجز وطمس الفوارق بين هذه الأمور من خلال عدة أشياء تستطيع منها أن تدرك ذلك الاختلاط، إن حدث، من أهم تلك الأشياء ذلك الإصرار العجيب على انتهاك غيب الصدور وهتك أستار النوايا والسرائر، التى لا يعلم حقيقتها إلا الله ولا يدرك سرها غيره فبمجرد حدوث الاختلاف حول أى قضية يسارع هؤلاء المخلطون باتهام نية بعضهم والتشكيك فى المقاصد التى أدت بكل منهم إلى ذلك الرأى. يُتبين أيضًا حدوث ذلك الخلط من خلال تحميل الكلام ما لا يحتمله، بل وأخذه على أبشع محامله والإصرار على تحقير أى محاولة لإحسان الظن أو التماس العذر أو حتى النقاش الموضوعى المهذب مع أصحاب الرأى المخالف.. قلت كذا مما يشبه رأى من أراهم أعداءً إذا فأنت عدو مثلهم ولا شك أنك متآمر معهم، بل وإن رفضت الخوض معى فى عداوتهم وأمسكت لسانك عنهم فأنت إذاً منهم ومثلهم شئت ذلك أم أبيت.
 
هكذا تصل درجات الاستقطاب إلى منتهاها عند كل اختلاف أو خلاف، بل ويصل الأمر كثيرا إلى السخرية من أصحاب ذلك التعفف عن الخوض فى مستنقعات السفه وتحويل أى اختلاف أو خلاف إلى شقاق وتناحر ولا يتورع الكثيرون عن نبذ المتعففين بالألقاب المهينة والتشبيهات المنفرة وربما البراءة منهم ومقاطعتهم فقط لأنهم رفضوا التمرغ فى مخاضة التنابذ والتراشق الناجم عن كل خلاف أو اختلاف مهما كان نوعه ومهما كانت درجته، ناهيك طبعا عن خصائص المخلطين المصرين على تمزيق الحواجز بين الأمور، التى قدمت بها مقالى، خصائص لا تخلو من الموالاة والمعاداة على الأشخاص والمواقف ولا تنقصها الغلظة والقسوة، التى لا تخطئها عين، ولا تغادر أطروحاتهم فظاظة طباع وتدنى ألفاظ تظهر من خلالها أحيانا عُقد روحية وأمراض قلبية ربما لا يكون علاجها إلا عند الأطباء وفى المصحات النفسية.
 
 إن من أكثر ما يثير الأسف والنفور هذه الطريقة من تجهيل الآخرين وبيان نقصهم وتسفيههم لمجرد اختلافهم.. أن تكون القيمة التى يقدمها هؤلاء المخلطون لمستمعيهم أو قرائهم قائمة فقط على رسالة ضمنية وحيدة مفادها أنهم فقط من يفهمون وأنهم وحدهم الأوسع اطلاعا والأعمق ثقافة وعلما وذلك من خلال الامتهان الدائم للآخرين ولأفكارهم ورؤاهم وعبر بيان خفتهم أو تفاهتهم بالنسبة لعمق أصحابنا هؤلاء وذكائهم المذهل وثقافتهم الفظيعة.
 
وقد يلجأ أحيانا أصحاب تلك الطريقة إلى تصورات متوهمة فى عقولهم ولوازم لا يحتملها الكلام، لكى تكون فرصة سانحة لنهش من يعدونهم من البلهاء السذج وإرسال رسالتهم المتكبرة فى الوقت نفسه والتى فحواها: اتبعونى فأنا الذكى الأعظم والمثقف الأكبر والعميق الذى لا يشق له غبار.. أفكار عظامية وقيم تسلقية لا تبزغ ولا تعلو إلا على سلم من عظام الآخرين.. مجد زائف وحياة طفيلية ما أشبهها بحياة مصاص دماء لا يحيا إلا اقتياتا على أرواح الآخرين والتجرع حتى الثمالة من دماء أفكارهم وبذلهم.. تلك الأفكار التى لا يقبلون احتمالية اختلافها أحيانا عن أفكارهم وخروجها أحيانا عن طوع آرائهم فإن حدث وخرجت واختلفت فقد حان الوقت حينئذ فورا لإعدامها بمشنقة التخوين وذبحها بمقصلة التحقير والتسفيه ولتختفى تدريجيا كل الحدود الفاصلة بين أنواع الاختلاف وطرق التعامل معها ولا تبقى إلا طريقة ترفض كل تفصيل وتضع كل مخالف فى سلة واحدة دون تمييز ودون فوارق.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة