سجلت الدراسات والوثائق كيف كانت الأخلاق سببًا فى استقرار أو انهيار الدولة فى الأندلس، حيث يرى الدكتور حمد بن صالح أن انهيار الأخلاق تسبب فى ضياع أرض الأندلس، فيقول: مما لا شك فيه أن الإيثار والتعاون من أهم سمات المجتمع الإسلامى، فقد دعا الإسلام إلى هذا الأمر وأصله فى نفوس المسلمين، قال تعالى «والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ» «الحشر 9».
وقد دخل المسلمون الفاتحون إلى بلاد الأندلس بهذه الأخلاق الطيبة، كما تربى أفراد المجتمع الإسلامى هناك على هذا الخلق الإسلامى الأصيل، عامتهم وخاصتهم، ولهذا قال أحد الباحثين: بقينا فى الأندلس ما بقينا مع الله، وضاعت الأندلس لما أضعنا طريق الله، بقينا فى الأندلس بهمة عبدالرحمن الداخل الذى قال لما نزل من البحر إلى بر الأندلس، وقد قدم إليه خمر ليشرب فأبى: إنى محتاج لما يزيد فى عقلى لا لما ينقصه، فعرف الناس من ذلك قدره، ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وإن أنا لهوت عنها بمهمتى فيما أطلبه ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت مهمتى، فلا حاجة لى بها الآن.
وقد سار المسلمون بالأندلس على هذا النهج حتى آخر عمر الدولة الأموية، حيث يذكر ابن عذارى أن المنصور بن أبى عامر كان يسهر على مصالح رعيته، وكانت متابعته لأمور رعيته تستنفد منه كل وقته، لدرجة أنه كان لا ينام إلا سويعات قليلة متفرقة، فلما قيل له قد أفرطت فى السهر، وبدنك يحتاج إلى أكثر من هذا النوم، أجاب قائلاً: إن الملك لا ينام إلا إذا نامت الرعية، ولو استوفيت نومى لما كان فى دور هذا البلد العظيم عين نائمة.
وفى آخر عمر الدولة الأموية ضعف تمسك الناس بكثير من الأخلاق الإسلامية، فانعكست آثار ذلك على المجتمع الإسلامى، فضلاً عن الدولة الأموية التى بدأت تظهر عليها علامات الهرم والشيخوخة حينما خف اعتبارها عند الناس، لأن قادتها فقدوا واحدًا من أهم مقومات دولتهم، حيث يذكر المؤرخون أنه حينما أعلن سقوط الدولة الأموية فى قرطبة سنة 422 هـ مشى البريد فى الأسواق والأرباض بألا يبقى أحد من بنى أمية بقرطبة، ولا يكنفهم أحد من القرطبيين.
وبعد أن قامت دولة ملوك الطوائف على أنقاض الدولة الأموية، ازداد الأمر سوءًا، حيث تنافس أولئك القوم على السلطة، وتناحروا من أجلها، فانتشر بينهم العداء المستحكم، والخصام الدائم، فالكثير منهم لا هم له إلا تحقيق مصلحته الذاتية، وإشباع أنانيته، وتثبيت أقدامه فى السلطة ولو على حساب مصلحة المسلمين، وكأن الأندلس إنما وجدت له ولمصلحته الذاتية مهما كان قصير العمر، ذليل المكانة مهزوز القواعد، ولهذا جعل الله بين أولئك الملوك والأمراء من التحاسد والتنافس والغيرة ما لم يجعله بين الضرائر المترفات، فلم يتعاونوا على بر أو تقوى، أو يسعوا لمصلحة إسلامية، بل انصبت كل جهودهم على توفير ما يخدم مصالحهم الخاصة.
هكذا كان واقع أولئك القوم، ويجد الدارس لتاريخهم العديد من الأمثلة والحوادث التى تدل على صحة ذلك، وعلى أنهم انشغلوا بأمورهم الخاصة، وغفلوا عن الخطر النصرانى الذى كان يتهدد هذه الجهة الشمالية من بلادهم، ومن الأمثلة على ذلك أنه حينما أغار فرناندو، ملك ليون، على بطليوس، بلاد المظفر ابن الأفطس، فدمرها، واستباح حريمها، وانتهب أموالها، ورد خبرها على المأمون بن ذى النون، صاحب طليطلة، ولما دخل عليه وزيره، أبوالمطرف بن مثنى، بعد وصول الخبر إليه، وجده شديد الإطراق والضيق، وأخذ يفرج عنه، معتقدًا أن ما أصابه من ضيق كان بسبب ما سمعه مما أصاب المسلمين فى بطليوس، فلما فهم مقصد ابن مثنى منه أعرض عنه وقال له: ألا ترى هذا الصانع- يعنى عريف بنيانه- صبرت له وأغضيت له، لكنه لا يمتثل لأمرى، وينغص على لذتى، ويستخف بإمرتى.. وللحديث بقيه غدًا إن شاء الله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة