- القاضى فوق منصته العالية لا يحكم بالشائعات والاتهامات المرسلة وإنما بالأدلة والقرائن
كل يوم يزداد احترامى وتقديرى لمؤسسة القضاء، التى استطاعت فى أحلك الظروف بعد 25 يناير، أن تحافظ على حيادها واستقلالها، وتقدم مثالاً رائعًا فى العدالة الناجزة، رغم انتقادات تأخير المحاكمات وطول الإجراءات، لكنها العدالة الراسخة التى لا تظلم بريئا ولا تحكم بالعوطف والمشاعر، ولا تخضع للأهواء والميول السياسية، وحمت المجتمع من صراخ المتشنحين، ودعاوى الغل والانتقام وتصفية الحسابات، وهو ما لم يحدث فى تاريخ الثورات فى العالم، حيث انهارت العدالة، وساد السيف والمقصلة ونصبت المشانق ومحاكم الميادين، خارج إطار القانون.
صحيح أن الأحكام الصادرة فى قضايا الفساد لم تنل رضا الرأى العام، ولكن صدرت أحكام كثيرة تضرب بيد من حديد على المفسدين، وفى نفس الوقت لا تنال من برىء ولا تلوث سمعة مظلوم، ومن أخذ مليمًا دون وجه حق لن يفلت من العقاب مهما طال أمد المحاكمة، ومن أثرى وتضخم دون وجه حق سوف تنتزع منه مكاسبه، فالعدالة الرشيدة هى التى ترد الحقوق وتردع الفاسدين وترسم الطريق نحو المستقبل، ممهدًا بالقانون والشرعية، لترسيخ معالم دولة القانون التى تصون حرية المصريين وكرامتهم.
والقاضى فوق منصته العالية لا يحكم بالشائعات والاتهامات المرسلة، وإنما بالأدلة والقرائن والبراهين، وأثبتت الأحداث أن القضاء المصرى لم يحد عن التسلح بالقانون، رغم تقلبات الأهواء السياسية، ومحاولات الإخوان أثناء حكمهم الانتقام من خصومهم السياسيين، وانفتحت نافورة البلاغات الكيدية، التى تجاوزت عشرات الآلاف، وألقت عبئا ثقيلا على كاهل القضاة، وانقلبت الآية فأصبح الذين كانوا يقدمون البلاغات بالأمس، تقدم ضدهم البلاغات اليوم، وانتصر القضاء للعدالة ولم يظلم بريئا، ولم يخضع لضغوط الميادين وهتافات المتظاهرين.
تجارب الثورات فى الدول الأخرى كانت مفزعة ومأساوية، ففى الثورة الفرنسية - مثلا - استمرت المقصلة فى العمل صباحًا مساءً لسنوات طويلة، كانت منصوبة فى أحد الميادين، ويلتف حولها الناس فى المدرجات يرقصون ويهللون كلما قطعت رؤوسًا، وبمرور الوقت لم يعد الفرنسيون يفزعون لقطع الرقاب وإراقة الدماء، وصار مشهدًا مألوفًا ومحببًا ومسليًا، لأن إزهاق الأرواح أصبح متعة، وصرخات القتلى أصبحت تطرب الجمهور، وكانت النساء يذهبن لمسرح المقصلة، ومعهن الأوانى والسكاكين لتجهيز الطعام وغسل الملابس وتنظيف شعر الصغيرات وقزقزة اللب، فالعروض مثيرة وشيقة وجذابة.
كانت المقصلة تحتاج عددًا معينًا من الرؤوس كل يوم، وإذا نقص العدد يتم استكماله من جمهور المتفرجين بالقرعة، أو من يجعله حظه العاثر يمر صدفة فى المكان، ويبدأ اليوم السعيد بعبارات «المقصلة عايزة تفطر»، وإذا تأخرت عربة المحكوم عليهم بالإعدام، يتم اختيار بعض الناس بالصدفة، من أول ثلاثة يدخلون الشارع، وكثير من الأبرياء فقدوا حياتهم بالقتل العشوائى، ولم يسمع أحد أدلة براءتهم لأن الأحداث كانت زاعقة والحناجر تصرخ والأيدى تتخاطف الجثث فى غضب محموم.
الانتقام العشوائى كان وقود الثورة الفرنسية، وبدأت الشرارة عندما دخلت عربة محملة ببراميل الويسكى إلى أحد الأحياء الفقيرة، وانكسر أحدها على الأرض واختلط الويسكى بالتراب، هرع أهالى الحى يدفنون رؤوسهم فى الطين ليشربوا بعض القطرات، وبعضهم كان يحمل كوبًا ومنديلاً يدسه فى الطين ثم يعصره فى الكوب، ويشرب الخليط، فى تلك اللحظات، خرج أحد الثوار، ودس يديه فى الطين ثم اتجه إلى أحد الجدران، وكتب عليه كلمة «الدم».. وانفجر الوعاء كالسيل الذى لا يتوقف.
الحمد لله أننا فى مصر ولم تنفجر حمامات الدم ولم تنصب المشانق، والحمد لله أن القضاء المصرى ظل حارسا أمينا على سيادة القانون، وعندما أراد المعزول وأهله وعشيرته، أن يأخونوا القضاء وأتوا بالنائب العام الملاكى، تصدى لهم قضاة مصر، ولم يرهبهم تهديد أو وعيد، وحكموا بالقانون الذى أقسموا على احترامه، فاكتسبوا الثقة والاحترام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة