ألم تكن هذه الذكرى العظيمة تستحق مسلسلاً رمضانيا واحدا يخلد هذه البطولات؟
كان يوم سبت «عشرة رمضان» 1973، وعندما فتحت الراديو للاستماع لنشرة الساعة الثانية والنصف ظهرا، جاءت البشرى العظيمة التى طال انتظارها، قواتنا المسلحة الباسلة تعبر قناة السويس وتجتاح خط بارليف.. «الله أكبر» كانت كلمة السر.. الله سبحانه وتعالى كافأ هذا الشعب الصابر بالنصر بعد ست سنوات من المرارة، وفتحت أمريكا مخازن عتادها لإنقاذ إسرائيل من الزلزال المصرى الرهيب، وانطلقت اغانى النصر فى الراديو مع بيانات القوات المسلحة.. «سيناء.. نحن عدنا بعد ست سنين»، ولم يكن ممكنا أن تصبر مصر على فراقك أكثر من ذلك..الإسرائيليون كتبوا عن انتصار الجيش المصرى أكثر مما كتبنا نحن، بعد أن أوشكت دولتهم على الضياع، ووصفوها بأنها «الصدمة والرعب»، ودُفنت أحلامهم التوسعية فى مقبرة سيناء.
هل يعرف شبابنا هذه البطولات؟.. هل سمعوا عن الطيارين الشبان العظماء الذين اقتحموا القناة بثلاثمائة طائرة، وأصابوا المدفعية والطيران الإسرائيلى بالشلل حتى نجح العبور؟.. هل يعرفون شيئًا عن «مدافع المياه» التى أذابت خط بارليف وقصة حياة المهندسين الذين اخترعوها وكيف نجحوا فى تصنيعها فى ألمانيا، بحجة إطفاء حرائق البترول الهائلة؟.. هل يعرفون شيئا عن صائد الدبابات «عبدالعاطى» و«محمد» الذى رفع أول علم فوق سيناء، وبقية أبطال الصاعقة الذين تم إنزالهم خلف خطوط العدو؟
هل يعرف شبابنا شيئا عن خطة الخداع الاستراتيجى التى ضللت العدو، فتصور أن الحرب مستحيلة، ولم يتخيل أن هناك حربا رغم أن قواتنا كانت تعبر القناة بالفعل؟.. هل يعرفون شيئا عن أعظم خطة فى التاريخ لإتلاف خزانات النابالم الرهيبة، التى كان من الممكن أن تحوّل القناة إلى بحيرة من جهنم، إذا حاولت القوات المصرية عبورها؟..هل يعرفون شيئا عن الثغرة، بعد تسلل القوات الإسرائيلية إلى الضفة الغربية للقناة، وكيف دخل العدو المصيدة بعد أن خطط لإدخال الجيش الثالث المصرى فى المصيدة؟
عشرات القصص والبطولات والأعمال الخالدة التى تصلح لأعمال سينمائية ومسلسلات تليفزيونية، توقظ فى شبابنا النخوة والبطولة والكرامة والكبرياء، بدلا من مسلسلات العار التى تطاردنا فى الشهر الكريم، وتبث روح الهدم والتشكيك واغتيال القيم.. ألم تكن هذه الذكرى العظيمة تستحق مسلسلا رمضانيا واحدا، إنسانيا، تاريخيا، بطوليا.. بدلا من الملايين التى تم إهدارها فى مسلسلات التفاهة؟
ولا أنسى أبدا يوم 25 يونيو 1967 كنت وقتها فى المرحلة الإعدادية، عندما استيقظنا فجرا وذهبنا إلى محطة القطار، لاستقبال المهاجرين الذين جاءوا إلى مدينتنا فى أسيوط، من بورسعيد عقب الهزيمة، وقيام الدولة بتهجير سكان مدن القناة.. ولا أنسى رئيس المدينة وأعضاء الاتحاد الاشتراكى يحملون زهورا باهتة ثم حملتهم سيارات النقل مع أمتعتهم البالية، إلى مقر إقامتهم فى المدارس، كانت كل أسرتين تقيمان فى فصل واحد، وتفصل بينهما ملاية سرير رثة، أطفال ونساء وبنات وأزواج وزوجات تحت سقف واحد.. الهزيمة النفسية للمصريين كانت أصعب بكثير من الهزيمة العسكرية، وما أصعب أن تنتزع إنسانا من عمله وبيته ومدينته، ثم تهاجر به مئات الكيلومترات، ليقيم فى فصل «شرك» داخل مدرسة..
المهاجرون عادوا إلى مدنهم بعد نصر أكتوبر العظيم، إلى بيوتهم وعائلاتهم وشوارعهم وغرف نومهم، وكان مستحيلا أن تطول إقامتهم أكثر من ست سنوات ما بين هزيمة يونيو 67 وانتصار أكتوبر 73.
هذه هى الحروب وهذه هى ويلاتها، فالهزيمة لا تكون فقط فى جبهة القتال، ولكن الانكسار الأفدح يكون فى الداخل، حيث تتحطم النفوس وتنهار القيم.. الهزيمة أيضا فعلت فى جيل الستينيات والسبعينيات مثلما فعلت فى المهاجرين.. كانوا يحلمون بالنصر وإلقاء إسرائيل فى البحر، فاستيقظوا صباحا على جيشهم مهزوما فى الصحراء.. لم يجد الشباب طريقا يلجأون إليه، إلا التطرف «الدينى» أو «الخلقى».. ومنذ ذلك الوقت أصيبت مصر بعدوى التطرف الذى تحول إلى عنف وإرهاب.. وهذه هى الحروب، لمن لا يعرفون أهوالها وويلاتها.. وكان ضروريا أن تأخذ مصر بثأرها ليس فقط لاستعادة أرضها المحتلة، ولكن أيضا لاستعادة شعبها من براثن اليأس والإحباط والهزيمة النفسية.
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الرحيم
غيبوبة!!!!!