مواقع التواصل الاجتماعى صنعت حالة ليس كمثلها حالة، فهى فضاء افتراضى يتواصل من خلاله البشر الذين يعيشون فى العالم الواقعى، ولكنهم على مواقع التواصل الافتراضى، كثيراً ما يصنعون عالما آخر موازيا للواقع، ولكنه ليس بحال متساوٍ معه، ولا هو معبر حقيقى عنه، كم من صور لمن تقول عنهم أصدقاء على مواقع التواصل تحمل كثيرا من الزيف، فكم من فتاة لا يربطها بالجمال رابط وتضع صورة جميلة الجميلات، وكم من أسماء وهمية أو أسماء شهيرة مكتوبة على حسابات وهى زائفة، وكم من رجال مفتولى العضلات يطرحون صورهم ليل نهار، بينما حقيقتهم أنهم من أصحاب وزن الريشة، والزيف ليس مجرد زيف شكلى، ولكنه وهم وزيف فى المضمون كذلك، فكم ممن يكتبون الحكم والمواعظ لا يعملون بها، وكم ممن يحكون عن أنفسهم بطولات، هم فئران فى الواقع، وكم ممن يدّعون الحنان على تلك المواقع الافتراضية، هم قساة القلوب، ولكنهم يؤدون دوراً مختلفاً فى العالم الافتراضى، فكأنهم يعيشون كل الأدوار.
ولعل تجربتى مع تلك المواقع بالتحديد، أثناء ثورة يناير 2011، وما تبعها من أحداث جسام لسنوات من العنف والأحداث الكبرى، كانت خير مثال على كثير من البطولات قليلة الحقيقة، فكم كنت أقرأ على حسابات البعض عبارات مثل «الحقوا البوليس محاصرنا وبيضربنا بالقنابل، وأنا مش عارفه أروح فين»، وعجبا وأنا أقرأ مثل هذا البوست أجد صاحبه أو صاحبته تجلس أمامى تحتسى الشاى أو النسكافيه على كرسى بجوارى فى مقهى أبعد ما يكون عن مكان الحدث، الذى يتكلمون عنه، وليس المثال الذى أشرت إليه هو مثال مقصود به أن من كان يفعل ذلك، هو متآمر أو يقصد بالتحديد أن يشعل البلاد فى الاضطرابات، فالبعض كان كذلك، ولكن كثيرا منهم كانوا توافه، أرادوا أن يصنعوا لأنفسهم هالات من بطولة من ورق أو بطولة افتراضية.
مواقع التواصل الاجتماعى، بقدر ما قربت البعيد وجمعت الغرباء، وظللت الأقرباء، إلا أنها ساهمت فى صناعة الوهم وزادت الوحدة والانفصال لدى شخصيات تعانى من مشكلات نفسية، فزادت من مشكلاتها، ونحن بالفعل بحاجة لكل أطباء وعلماء العلوم الاجتماعية، كى يساعدوننا فى تحليل هذا الأمر، أما المشكلات التى تترتب على هذا الوهم أو الافتراض، فهى كثيرة والكل يشارك فيها، سواء مستخدم واهم أو صادق وواقعى، فأنت أو غيرك تجد بوست مكتوبا، نشره فلان الذى لا تعرفه أو يعرفك، وتقول عنه صديق وهو ليس بصديق، فتسارع إلى نشره دون أن تكلف خاطرك، البحث عن حقيقة المنشور، فيزيد الوهم وتكبر كرة الثلج من الكذب ويتناقلها غيرك وغيرك، وهكذا، لأن لا أحد يريد أن يرهق نفسه فى البحث، لأننا فى العالم الافتراضى.
ولعل فى قصة مراسلة جريدة لو سوار البلجيكية نموذج أستطيع الإشارة له فى هذا الصدد، فرغم أننا جميعاً متأكدون، أن هناك جهات فى كثير من دول بعينها تتآمر على مصر، وتتمنى لها كل المصائب، فإنه لا يجب أن تسوقنا تلك الحقيقة إلى الشك فى كل شىء وأى شخص، لأن ذلك من شأنه أن يشل عقولنا، فهناك مؤامرة، ولكن لا يشارك فيها كل البشر فى كل مكان فى العالم، وفى كل وسيلة إعلام، فتلك حقيقة لا يجب أن تغيب عنا، وعودة إلى مراسلة لو سوار البلجيكية التى لم يكن هناك، حتى فى مصر إعلاميون، يعرفون أن لجريدة لو سوار البلجيكية مراسلة، وربما حتى لا يعرفون أن هناك جريدة فى الأصل بهذا الاسم، حتى إن الكثيرين منهم أشار إلى أنها مراسلة جريدة فرنسية، بينما هى بلجيكية تصدر بالفرنسية، كتبت هذه المراسلة بوست على الفيس بوك، تقول فيه إن الجريدة أنهت خدمتها لأنها رفضت أن تكتب تقريراً يدين مصر للطيران.. وهكذا تحولت هذه المراسلة فى لحظة إلى بطلة مغوارة، وحبيبة المصريين، وكلنا تداولنا هذا البوست، ولم يخل موقع أو صحيفة أو برنامج تليفزيونى من ذكر الخبر ،طبعا كتأكيد على المؤامرة من الإعلام الأوروبى، والمؤامرة عامة، وصارت بطلة شعبية.
لم يفكر أحد من المتخصصين فى الإعلام أن يتصل بالصحيفة، ويتأكد من بطولة فى عالم افتراضى، ولكننا اكتفينا بما نريده، وبغض النظر عن البيان الذى أصدرته الصحيفة، فإن واحداً من أقدم المحررين الأجانب فى مصر، وأهمهم، ألكسندر بوشيانتى، كتب على موقعه، يقول إن هذه المحررة لم تكتب فى حياتها، إلا ثلاثة أو أربعة تقارير ضعيفة، وأنها تقدمت بتقرير ضعيف، وربما لهذا أنهوا خدمتها، وهو أمر يجب ألا نستبعده. ولكن هل سيسعى أحد للبحث عن حقيقة هذه المراسلة وحكايتها، أم ستنضم حكايتها، ربما، لملايين من القصص والصور فى العالم الافتراضى، كجميلة الجميلات وشجيع السيما؟!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة