انشغلت وكتبت كثيرا عن الإسلام والعصر والعالم والإنسان، وكيف يكون الفكر الإسلامى واجتهاد المجتهدين آخذا فى اعتباره العالم المعاصر والإنسان المعاصر وقيم العالم الذى نعيش فيه. ولا يبدو أن الدين ومجتهديه هم وحدهم المطلوب منهم أن يأخذوا فى حسبانهم منطق العالم والعصر والإنسان، بل الدولة هى الأخرى لا بد أن تكون تعبيرا عن العصر والعالم والإنسان المعاصر.
الدولة الحديثة مختلفة عن دولة الخلافة القديمة، فدولة الخلافة القديمة كانت تعبيرا عن عالم الإسلام الفاتح، ونشأ الفقه الإسلامى خاصة ما يتصل بالسير أى الفتوحات وفقه البلدان التى تم فتحها ووضعها القانونى، وكيف يتم التعامل مع الناس الذين يضعون أيديهم على تلك الأراضى، وكيفية التعامل مع الأسارى وقواعد الحرب والعلاقات مع العالم والدول الأخرى عهدا وحربا وسلما، والدولة الحديثة فى مصر على سبيل المثال، وهى التى صار فيها استقلال لمصر وشخصيتها المعنوية عن العالم القديم الذى كانت جزءًا منه وهو عالم الخلافة العثمانية، كانت مصر محتلة من الإنجليز، بيد أن تجربة وليدة فى مصر نشأت معها مؤسسات الدولة وعلى رأسها الدستور والبرلمان والأحزاب والجمعيات الأهلية والحركات الاجتماعية المختلفة.
استلهمت الدولة الحديثة فى مصر والعالم العربى نمط الدولة القومية التى تعبر عن شعب واحد فى نطاق جغرافى محدد هو حدود الدولة المعترف بها دوليا، ورغم علمانية الدولة فإنها اعتبرت أن الإسلام هو دين أغلبتيها وجوهر هويتها، وكانت هناك مؤسسات للدين باقية بحكم استمرار عنصر الإسلام فيها، فكانت المحاكم الشرعية وقوانين الأحوال الشخصية، وكان الأزهر وتعليمه ومعاهده وشيخه وأوقافه والمذاهب الفقهية الأربعة التى كانت تعمل وتتحرك، واتسم العصر بقدر من الحرية فلم تعرف مصر التعذيب ولا النزعة السلطوية القاتلة لفاعليات أفرادها فخرج من تلك الفترة نخبة هى الأهم فى تاريخ مصر على جميع المستويات بدءا من الثقافة والفن والفكر والسياسة والمدارس السياسية المختلفة التى كان على رأسها بلا ريب مدرسة الوفد الوطنية.
مع نكبة فلسطين وهزيمة الجيوش العربية، ونحن نعيش ذكراها الثامنة والستين، ومع الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، ومع عجز النظام عن أن يكون معبرا عن طموحات الأجيال الجديدة فإن نهايتة دنت وخرج الملك من مصر فى يوليو 1952 مع حركة الضباط الأحرار.
ما هى أهم ميزات الدول الحديثة التى اتخذتها الدولة العربية المعاصرة مثالا لها؟ أهم تلك الميزات أن نظامها ديمقراطى، وأنها توازن بين قوة الدولة والمجتمع، وأنها تحترم كرامة الإنسان وحريته لأبعد مدى، وأنها تعترف للمجتمع الأهلى والمدنى بحريته سواء أكان عبر نقاباته أم عبر جمعياته الخيرية والدينية أو الحقوقية، وأنها تلتزم بالقانون وتجعل من الجميع سواء أمامه، كما أنها تخضع جميع مؤسسات الدولة التنفيذية للرقابة من البرلمان المنتخب من الشعب، ويتمتع فيها القضاء باستقلاله الكامل عن السلطة التنفيذية، وتعبر الحكومة المنتخبة عن قوى اجتماعية وسياسية لها تحيزات واضحة تعبر عن رؤيتها، وفى الدول الحديثة يزدهر الإبداع وحرية الفكر والرأى والتعبير، ولا تستولى أوليجاركية على مقادير الناس اغتصابا للسلطة دون أن يتم ذلك عبر انتخابات حرة نزيهة وشفافة، وفى تلك الدولة الحديثة إعلام مسؤول يلتزم المهنية والحياد، وهناك شفافية يطبق من خلالها قانون «من أين لك هذا؟»، ويعرف المواطن كل مليم يتم إنفاقه فى الوزارات والهيئات المختلفة، لأنه من ضرائب المواطنين.
الدولة العربية الحديثة لاتزال تعيش بعيدا عن العصر ومنطقه والعالم وتقاليده، ولا تعترف للإنسان بحقه فى أن يكون مواطنا له حقوقه وواجباته، المشكلة أن العالم كله أصبح قرية واحدة، والمواطن العربى يرى ما يجرى حوله وهو يرى أن دولته لاتزال تسير فى خط مختلف عن ذلك الذى يسير فيه العالم، من هنا كانت ثورة يناير تحديثا للدولة المصرية وجعلها على مقاس العالم والعصر والإنسان، ولاتزال القوى القديمة تحول دون مضى الدولة المصرية نحو مسيرتها الإنسانية والعصرية، وهذه هى أكبر التحديات، الإصلاح يأتى عبر قناعة الحكام به، وإذا لم يأت الإصلاح فإن أبواب الثورة تدق الأبواب لكى تكون الدولة المصرية عصرية وإنسانية ومتماشية مع قيم العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة