لا تتجاوز المسافة بين برج العرب «المطار» وبرج العرب «الاستاد» كيلومترات قليلة، ولكنها بحساب المشاعر الوطنية لا تقبل القياس.. ففى الثامنة صباح الثلاثاء اختطفت الطائرة، وبدأت بعدها حرب الشماتة والتشفى من الجماعة الإرهابية، وفى التاسعة مساء خرجت الجماهير الحاشدة من الاستاد تحمل أعلام مصر، وتهتف «مصر.. مصر»، بعد الفوز على نيجيريا، والتأهل لنهائى البطولة الأفريقية.. شتان بين المشهدين.. بشر حاقدون وناقمون ويتمنون لبلدنا الخراب والدمار، ويفرحون لأى مصاب.. وجمهور عاشق يبحث عن الفرحة، مثل %99 من المصريين، الذين ضبطوا دقات قلوبهم على هجمات نيجيرية خطيرة فى الدقائق الأخيرة، وتنفسوا الصعداء وتبدلوا الأحضان والعناق، بعد صافرة النهاية ويقولون «الحمد لله».
حب الوطن لا يقاس بالأمتار ولا عبارات الزيف والخداع، ولكنه ارتواء من ماء النيل وعشق للأرض والتراب، ومخزون للهوية والحضارة والثقافة، والغيرة على الأرض والعلم، والاستعداء للتضحية بالدماء والأرواح، ويتجسد الحب فى أسمى معانيه فى الخوف على الوطن، خصوصا فى المحن والأزمات، ويتحول المصريون فى أوقات الخطر إلى روح واحدة فى جسد واحد، سواء كان المعنى فى الدفاع عن سيناء، أو الفوز فى مباراة كرة قدم، وفى الحالة الأخيرة، كان المشهد رائعا فى استاد برج العرب، ورفضت الجماهير أن تحمل إلا علم مصر، واختفت أعلام الأهلى والزمالك، وهذا ما لا تفهمه الجماعة الإرهابية فى أبسط معانيه، حيث رفعت أعلامها السوداء، بعد اختطاف الطائرة، وبثت حقدا أكثر سودادا.
لا أستبعد أن يكون الخاطف متآمرا ومدسوسا وعميلا للجماعة الإرهابية، فتاريخه الإجرامى الحافل بـ16 جريمة متنوعة من المخدرات حتى التزييف، يجعله صيدا سهلا إذا تم مغازلته بأموال يتخلص بها من أزماته الخانقة، فهو ليس من السذاجة والبلاهة لأن يقوم بعملية طائشة، تعلق رقبته فى المشنقة، أو تودى به للسجن مدى الحياة، ولا أستبعد أن يكون إخوانيا متخفيا، وقام بجريمته القذرة تحت سيل الوعود والأمانى، بأن يحصل على اللجوء السياسى، ويتم استقدامه إلى تركيا، لينضم لباقى فرقة الغدر والخيانة.
جاءت عملية الاختطاف فى لحظة فارقة، أوشكت فيها غمة الطائرة الروسية على الانقشاع، وبدأت السياحة تعود ببطء إيذانا لرفع الحظر، وعودة الروح مرة أخرى، بما يعنى خيرا لمصر وشرا للجماعة الإرهابية، فكل أزمة تنفرج هى أزمة بالنسبة لهم، وكل أمل يولد هو يأس وإحباط، لمهاويس مازالوا ينتظرون عودة المعزول، ويعيشون عالما افتراضيا تحول إلى كابوس مخيف، وكلما استعادة مصر مكانتها فى المجتمع الدولى، سحبت من تحت أقدامهم سجادة الاستقواء بالخارج، فهللوا وكبروا وتبادلوا التهانى، طيلة ست ساعات استغرقتها العملية الفاشلة.. وأصيبوا بخيبة أمل وخزى وعار، ليس للقبض على المجرم التافه فقط، وإنما لإدارة الأزمة الهادئة العاقلة من قبل السلطات المصرية. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فقد اتسم أداء الدولة المصرية بالانسجام والتفاهم وعدم الانفعال، فالرئيس يتابع الموقف لحظة بلحظة، ويوفر مظلة رئاسية قوية لفريق العمل، سواء باتصاله بالرئيس القبرصى، أو بطمأنته الرأى العام، وتأكيد الحرص التام على أمن وسلامة الركاب، ورئيس الوزراء انتقل على الفور لغرفة العمليات بوزارة الطيران، لتكون المفاوضات والقرارات على أعلى مستوى.
وكشفت الأزمة عن قوة وزير الطيران المدنى شريف فتحى، فلم يخضع لضغوط الصحفيين للكشف عن معلومات قد تضر سير التحقيقات، ولم يتحدث إلا عن المعلومات المؤكدة التى يمكن أن يبوح بها، والأكثر احتراما أنه سافر لتهنئة الركاب بسلامتهم والعودة بهم إلى القاهرة، ليستقبلهم رئيس الوزراء فى المطار، والمعنى المأخوذ من ذلك هو أن مصر تغيرت بالفعل، ولم تعد تترك أبناءها فى المشاكل التى تواجههم بالخارج، ولن يقبل الناس بعد ذلك أقل من هذا الاهتمام، فكرامة مصر من كرامة أبنائها، ومن حقهم أن يتمتعوا بنفس الرعاية التى توفرها الدول المحترمة لمواطنيها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة