طلبت علاجاً من الصيدلية المجاورة لمنزلى.. بعدها بدقائق رن جرس الباب ففتحته، وفوجئت بفتاة صغيرة تعمل”دليفرى” للصيدلية، أشفقت عليها كثيراً أن تتحرك بالليل فى منطقة شبه موحشة، رغم اكتظاظها بالسكان، فإن البرد القارص يجعل الشوارع خالية، عرفت أن اسمها “عواطف” وأنها فى الرابعة الابتدائية، وبدأت العمل حديثاً فى الصيدلية مع بدء إجازة نصف العام.. علمت أن لها عشرة من الأشقاء، وأن والدتها منفصلة عن والدها، وأنها تعيش مع أمها التى تزوجت رجلاً منحرفاً، مما أودى به إلى السجن، والأم وأولادها العشرة يكابدون”المر” و”الآلام” والبرد والجوع” يومياً، فخرجت عواطف وأختها من أبيها «أية» للعمل، تتمنى عواطف أو«طوفة» كما يدللونها فى الصيدلية أن تكمل تعليمها، وتتخرج صيدلانية لتستمر فى العمل معهم، «طوفة» طفلة جميلة، وأمارات الذكاء تكاد تقفز من عينيها .. ولكن الفقر والعوز والتفكك الأسرى جعلها تتحمل هذه المسؤولية الجسيمة فى العمل بهذه المهنة الصعبة والخطرة جداً، تردد دوماً “ أريد أن أكون كويسة وأتخرج فى الجامعة”، أكبرت كفاحها مع إشفاقى عليها.
وإلى جوار هذه الصيدلية يقبع موقف ميكروباصات “باكوس المنشية “ الذى أمر عليه أثناء ذهابى وإيابى من عيادتى.. عادة ما أعود متأخراً بعد منتصف الليل لأرى رجلاً كبير السن ممسكاً بجردل مياه، وبعض المنظفات ليغسل فى هذا البرد القارص كل الميكروباصات، حتى إذا جاء الفجر وانبلج الصباح، جاء كل سائق ليجد سيارته فى أبهى حالة.
فكرت فى أمر هذا المسن الذى تابعته لسنوات قائلاً لنفسى: متى يستريح من هذا العناء اليومى؟ ومن يكفله ويرعاه ويساعده بدلاً من هذا الشقاء؟ وأقول لنفسی لعل هذا الكفاح الكبير هو سر بقائه وصفائه وحياته.. ولعله الذى يعطى حياته معنى، ويجعل يده هى العليا ولا يجعلها السفلى أبداً، الكفاح شرف ونبل وعطاء وحياة ولذة ومحبة، فالقاعدون الخاملون لا يشعرون أبداً بمثل هذه المعانى الكريمة.
قريباً من الصيدلية هناك بوابة لإحدى العمارات اسمها “فتحية” مات زوجها وهى صغيرة، لم تمد يدها لأحد ولم تتسول الناس، ربت بناتها الأربع من مال حلال، وعلمتهن تعليماً متوسطاً بأقل الإمكانيات، من كثرة ما استضعفها الناس، وإدمانها خدمة الناس، طمع بناتها فيها فاستضعفناها وأدمن كذلك خدمتها لهن، فكن إذا أرادن شراء دواء أرسلناها هى دونهن، وإذا احتاجت إحداهن شحن محمولها أرسلتها لذلك، لم يدركن أنه ليس معنى أن الأم تخدم الناس أن يستخدمها أولادها، أو أن الأب يمسح أحذية الناس فيعطيه الابن حذاءه ليمسحه.
ولكن هؤلاء لم يكتفوا بالكفاح الكبير فى الدنيا، بل جعلوا أنفسهم مطية لكل أحد، عملاً بقول الرجل الصالح “ يا أقدام الصبر تحملى فلم يبق إلا القليل“ فقد مضى من الدنيا الكثير، وهو صعب وشاق، فلنتحمل القليل الباقى، وليفعل الله بعد ذلك ما يشاء .
أما أم محمد التى تسكن قريباً منا ومن الصيدلية، فزوجها بائع خضار بسيط لديها ولد واحد “ محمد “ الذى تربى تربية فاضلة حتى تخرج فى الجامعة، بعد أن كبر ابنها كانت فى شوق لـ”بنت صغيرة” ولكن زوجها لم يستطع أن يحقق حلمها، فذهبت إلى ملجأ الأيتام، ورجعت إلى بيتها “ببنت صغيرة”، ربتها أحسن تربية وعلمتها ولم تشعرها يوماً أو تخبرها بأنها ليست ابنتها، تنام فى حضن ابنتها، وتترك زوجها وابنها ليناما سوياً فى غرفة أخرى، وتظل تكافح مع زوجها البسيط بائع الخضار، لتجعل دوماً يدها هى العليا، لم تمد يوماً يدها لأحد.
من أراد أن يعرف الشعب المصرى وكفاحه اليومى من أجل اللقمة الحلال، فلينظر إلى مثل هذه النماذج، أما الذين يرقصون وهم شبه عرايا فى القنوات لا يمثلون مصر، والتافهون العابثون الماجنون الشاربون للخمر الغارقون فى الحرام واللهو لا يمثلون مصر، والمتشدقون والشتامون والكذابون والمنافقون وآكلو أموال الناس بالباطل لا يمثلون مصر، لأنها ببساطة أنظف وأشرف وأنبل وأكرم وأتقى وأنقى من هؤلاء جميعاً .. الشعب المصرى الآن يساوى الكفاح من أجل لقمة عيش حلال.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة