ألم أقل لك فى آخر لقاء بيننا إن اللغة عاجزة وقاصرة وفقيرة؟! ألم أقل لك إن أعظم شعراء العالم لا يستطيع أن يرسم بكلماته شذى زهرةٍ، ولا طعم تمرةٍ، ولا حُرقة دمعةٍ، ولا فرحةَ لقاء حبيبين، ولا لوعة فراقهما؟ لهذا لم أستطع أن أهاتفك!
ماذا بوسعى أن أقول لك، وأنا أعرفُ من أنت، وأعرف من هى نيفين رامز بالنسبة لك؟ أعرف حجم حبّك لها، وأعرف حجم حبها لك، فأعرف بالتالى هول الكنز الذى فقدت اليوم. فأى كلمات رثاء تعوّضك عن ثروتك التى ذهبت عنك، وتسرّبت من بين أصابعك، وأنت عاجز عن الإبقاء عليه؟
شاهدتُ دموعك وأنت تحكى عن وجعها، ووجعك وأنت تحاول أن تهبها روحك لتُشفى. أعرف كيف جُلت بين أركان العالم ما بين بريطانيا وألمانيا وأمريكا لكى تبحث عن شفاء ودواء لرفيقتك وحبيبتك التى داهم المرضُ الشرسُ جسدَها الواهن فكان الحزنُ يقتلك كل يوم. أعرفُ كيف عطّلت كل أعمالك وتوقفت عن بروفات مسرحية «خيبتنا» حتى يتم شفاؤها. وحين قلتُ لك بل أكملها ونيفين سوف تصمم ديكورها كالمعتاد، لأن فى العمل علاجًا وشفاءً، أومأتْ نيفين الجميلة بالموافقة وأنت قلت: لن أكملها حتى تُشفى.
أعلم استثنائية معدنك الرفيع، وأعلم فرادة قلبك العاشق، وأعلم تركيبة نفسك الشريفة المخلصة، لهذا لم أجد أية كلمات يمكنها أن تُعزّى قلبك المفجوع بعدما لملمت نيفين أشياءها وضحكاتها ودموعها وخفق قلبها، وصعدت للسماء، وتركتك وحيدًا.
لا، لم تتركك وحيدًا، بل تركت لك نُسغها ورحيق روحها وزهرات عمرها وعمرك: مريم وكريم. وتركت لك كنزًا وفيرًا من الذكريات الجميلة. وتركت معك فنّك الرفيع الذى فيه عزاؤك عن فقدك، وعزاؤنا عما نواجه فى حياتنا من صعاب.
نعم اللغة عاجزةٌ وقاصرة وفقيرة يا أستاذى ومُعلّمى وحبيبى وأيقونة المسرح والالتزام بالنسبة لى، لكن الفن الرفيع ليس عاجزًا ولا قاصرًا ولا فقيرًا، حينما يكون الفنُّ استثنائيًا وماسًّا مثل فن محمد صبحى.
عزِّ نفسك وعزِّنا بفنك المحترم، واسِ نفسك، وواسِنا بفنك الرفيع. أحسن عزاء قلبك، وأحسن عزاءَنا بفنك الجميل، سامحنى إن لم أهاتفك بالأمس، لأننى وجدتُ كل كلمات المواساة فقيرة وفارغة من المعنى، سأحاول هذا المساء أن أقوم بهذه المهمة العسرة، وسلفًا سامحنى إن هرب الكلام منى، لكنّ فى صمتى كلامًا كثيرًا وضعتُه فى هذه القصيدة.
دموعُ الفارس.. إلى محمد صبحى ونيفين رامز
كنتُ هناكَ
فى الغابةِ البعيدة
أقفُ تحت شجرةٍ وارفة
أتخفّى بين أغصانِها
أختلسُ النظرَ إليكْ
وأنت تغرسُ زهرةً
من أجل حبيبتِكْ
أراكَ
ولا ترانى
من مخبئى
أرقُبُ يديك اللتين
بمهارةِ جرّاحٍ
تحفران فى طمى الأرض
لتغرسا بذورًا وشتلاتٍ
جمعتَها من وديان الصقيع
وفجاجِ البلادِ البعيدة
علَّ زهرةً صغيرةً تنبتُ
لتَضفِرَها فى جديلةِ
نيفين الجميلة.
كلما صدحَ طيرٌ
فوق غُصنٍ
وشوشتُه
حتى يصمتَ
لكيلا يكشفَ عن وجودى
فتُكملَ مسيرةَ الإنباتِ
وحيدًا
وأنتظرُ معكَ
موسمَ الحصاد.
تلك البذورُ التى غرستَها
أيها الفارسُ
قبل أربعين عامًا
أزهرتْ براعمَ
وزهورًا
سيقانُها نحيلةٌ
مثل خِصرِ حبيبتك
ورحيقُها شهدٌ
مثل عينيها
ونُسْغُها مُرٌّ
مثل صبّارِ فراقِها.
اِبكِ الآن يا حبيبى
ومُعلّمى
ما طابَ لك البكاءُ
وما شاءَ لك الحَزَن
فالفُرسانُ أيضًا
يعرفون البكاءَ
وانثرْ علينا
من نِثارِ فنّكَ الأبهرِ
ما يُطيّبُ قلوبَنا
وتطيبُ به مسامعُنا.
جُلْ بين أراضى الله
واجمعْ فى سلّتِك
حصادَ زرعِكَ الغنىّ
فالنبتُ الطيّبُ
يبقى
بعد رحيلِنا.
تقولُ لى:
لماذا ذبحتِنى بكلماتكِ؟!
بل أنتَ ذابحُنا
وقاتلُ عاشقيكَ.
ذبَحَنا حزنُك
الذى ليس على خشبةِ مسرح
وخزتنا شوكةُ الألمِ المحفورِ
على صفحةِ وجهِك الذى
علّمنا الابتسامَ
بين وهادِ أحزانِنا
جرحنا أنينُكَ المكتومُ
الذى يُصدِّعُ شرايينَ القلبِ
وهو خارجٌ من ثناياكَ
إلينا.
أنت اليومَ
اختلستَ منّا
كل الضحكاتِ التى منحتنا
دهرًا طويلاً
حين نثرتَ فوق ضريحِ حبيبتِك
دمعًا
لا يشبه دمعَ هاملتَ وأوديبَ وروميو
بل دموعَ العاشقِ الذى
طارتْ حبيبتُه
وتركته
يسكنُ فى الفراغْ
وحيدًا.
كفكِفْ الآن دمعَك
وعُدْ إلينا
وأعِدْ إلينا فرحَنا.
لوّحْ للجميلةِ
التى غدرتْكَ وتركتْكَ
تلويحةَ عشقٍ دون وداعْ
فهى
سوف يزورُ الفرحُ عينيها
إن هدأ قلبُك المصدوعُ
وعدتَ إلينا
فارسًا نبيلاً
عاشَ عمرَه يُعلِّمُنا
أن الفُرسانَ يبكون
ولا ينكسرون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة