جامبيا، نموذج أفريقى جديد يضع نهاية لأسطورة "الرئيس الأبدى"، التى تميز أغلب دول القارة السمراء حتى الآن، إذ أنهت الانتخابات الرئاسية التى جرت فى الدولة المنتمية لغرب أفريقيا، يوم الجمعة الماضى، سيطرة يحيى جامع، الذى تولى الحكم لـ22 عامًا، وكان يُوصف بأنه أعتى ديكتاتور فى العالم.
هزيمة يحيى جامع فى الانتخابات كانت مفاجأة للداخل والخارج فى وقت واحد، وذلك لأسباب عديدة، فالرئيس الخاسر، وعد فى 2011 ومع بداية ثورات الربيع العربى فى شمال أفريقيا، بحكم بلاده "لمليار عام"، واستمر فى سياسته الديكتاتورية وحكمه للبلاد بقبضة حديدية، وتؤكد المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان أنه كان يسحق المعارضة بشكل ممنهج، من خلال سجن خصومه وتعذيبهم، ومن ثمّ لم يكن يتوقع أحد أن يخسر فى الانتخابات وأن يقبل بنتائجها بهذه السهولة.
ديكتاتور جامبيا يخسر فى نتخابات سهلة التزوير ودون رقابة دولية
الأغرب فى قضية يحيى جامع، أن الرئيس القمعى خسر فى انتخابات كان من السهل تزوير نتائجها دون مراقبة أو محاسبة، إذ غابت عن انتخابات جامبيا أيّة رقابة من المنظمات الدولية، وبإشراف رمزى من الاتحاد الأفريقى، ووسط انقطاع كامل للإنترنت والاتصالات الدولية، ومع إغلاق الحدود البرية للبلاد.
الدولة الواقعة فى الغرب الأفريقى، والبالغ عدد سكانها أقل من مليونين، لم تعرف انتقالاً سلسًا للسلطة منذ استقلالها عن الاستعمار البريطانى، إذ لجأ رئيسها المؤسس السير جاوودا جاوارا لتطبيق نظام الحزب الواحد، وهيمن "حزب الشعب التقدمى" على السياسة فى البلاد ما يقرب من 30 عامًا، منذ 1965 وحتى 1994.
وصعد يحيى جامع للسلطة عبر انقلاب عسكرى عام 1994، واستمر على خطا سلفه، وصعّد من إجراءاته الديكتاتورية والقمعية، وكان مصير معارضيه القتل والاعتقال والهروب من البلاد، وعبر هذه الممارسات عرض البلاد لحصار اقتصادى خارجى، بعد أن قرر الاتحاد الأوروبى فى 2014 التعليق المؤقت لأموال المساعدات الموجهة لـ"جامبيا"، التى احتلت المركز 165 من بين 187 دولة فى مؤشر الأمم المتحدة للتنمية.
يحيى جامع يناور الغرب ويلعن جامبيا دولة إسلامية
عقب الحصار الاقتصادى الغربى على جامبيا بسبب شطحات رئيسها الديكتاتور، فاجأ "جامع" العالم فى العام 2015 بإعلان تحول بلاده إلى جمهورية إسلامية، فى خطوة أبدى جميع المراقبين تعجبهم منها، فى ظل بلوغ نسبة المسلمين بالدولة 95% من السكان، ورأى المراقبون أن إعلان "جامع" إسلامية دولته التى يدين أغلب سكانها بالإسلام فعلاً، وفى هذا التوقيت بالتحديد، يعد محاولة للخروج من الحصار الغربى عليه، والبحث عن مصادر تمويل أخرى لدولته فى العالم الإسلامى.
ومنذ إعلان جامبيا عن إسلاميتها، ازداد قمع يحيى جامع لمعارضيه، وقالت عنه صحيفة "لوموند" الفرنسية، إن المستبد الجامبى يعمل الآن على مشروع واضح ومحدد، وهو فرض الترهيب على شعبه الذى يعيش أصلا تحت رحمة الفقر، وأنه إذا كان هناك بعض الذين يُلهمهم يحيى جامع الابتسامة، فإن درجة شراسة هذا الإنسان لم تغب عن بال أولئك الذين يولون الاهتمام لهذا البلد الصغير، الذى يقع فى جنوب السنغال.
وقبل الانتخابات بأشهر قليلة، كان العالم الغربى يضع جامبيا تحت المجهر، بسبب تصاعد قمع حقوق الإنسان، وهدد الاتحاد الأوروبى بفرض عقوبات على الحكومة، وأصدرت الولايات المتحدة الأمريكية تصريحات تنتقد قمع "جامع" لخصومه، وأصدرت منظمات مثل "العفو الدولية" تقارير لاذعة ضد أساليبه، ونتيجة استمرار القمع لما يزيد على عقدين من الزمن، جاء رد فعل مواطنى جامبيا على هزيمة الرئيس يحيى جامع فى الانتخابات الرئاسية، مزيجًا من الفرحة والذهول وعدم التصديق، بعد يوم واحد من إقراره بخسارة تنهى حكمه الذى استمر 22 عامًا.
مواطنو جامبيا: لن نصدق إلا حينما يغادر مقره الرسمى
قليلون فقط من مواطنى جامبيا صدقوا هزيمة يحيى جامع فى الانتخابات أمام منافسه مرشح المعارضة أداما بارو، حتى أن وكالات الأنباء نقلت عن أحد المواطنين قوله "لن أصدقها - قاصدًا هزيمة جامع - إلا عندما أراه يغادر مقره الرسمى، هو ما زال يسيطر على الجيش وكبار قادة الجيش من عائلته"، وذلك رغم خطاب نقلته الإذاعة الرسمية، مساء أمس الجمعة، أقر خلاله "جامع" بالنتائج التى أعلنتها لجنة الانتخابات وأظهرت خسارته، فى خطوة أصابت المراقبين فى أنحاء القارة الأفريقية بالذهول، وأشعلت احتفالات صاخبة فى العاصمة "بانجول".
وبحسب النتائج الرسمية، حصل أداما بارو، الرئيس الجديد لجمهورية جامبيا، على 45.5% من أصوات الناخبين، مقابل 36.7% لـ"جامع"، وأكد المراقبون أن التسليم السلمى للسلطة فى جامبيا سيمثل مفاجأة سارة للديمقراطية فى أفريقيا، التى تشهد حدثا قليلا ما يتكرر.
وتعطى تجربة جامبيا بارقة أمل لدول عديدة فى أفريقيا ما زالت تعيش فى كنف الديكتاتورية، كما هو الحال فى الكاميرون التى تعيش تحت سيطرة "بول بيا" الموجود فى السلطة منذ عام 1982، فى حين يتهرب الرئيس جوزيف كابيلا، الذى تولى رئاسة جمهورية الكونغو الديمقراطية فى 2001، من الإعلان عن موعد لانتخابات الرئاسة، فى حين لحقت جامبيا بساحل العاج التى شهدت أول انتخابات سلمية منذ عقدين من الزمن، أما فى نيجيريا، فقد خسر الحزب المهيمن الانتخابات، واعترف محمدو بوخارى، الرئيس الحالى، بالتداول السلمى للسلطة، وهو الاعتراف الذى ترددت أصداؤه فى جميع أنحاء أفريقيا.
أبواب جامبيا تنفتح على العالم فى 24 ساعة فقط
وشهدت جامبيا انفتاحًا كبيرًا على العالم خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، إذ سارع الأمين العام للأمم المتحدة "بان كى مون" بتهنئة الشعب الجامبى على الانتخابات، لحقته فى ذلك مسؤولة السياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبى "فيدريكا موجيرينى"، وقال المسؤولان إن المؤسستين مستعدتان لدعم جامبيا.
من جانبهم، يتطلع مواطنو جامبيا الآن إلى الرجل المشهور باسم "نو دراما أداما"، بسبب طلته المميزة بالهدوء ورباطة الجأش، لإزالة آثار حكم مستبد استمر 22 عامًا، وكان سببًا فى تدهور الاقتصاد وتحويل هذا البلد من مقصد سياحى إلى دولة منبوذة إقليميًّا.
وقال كارامبا توراى، المتحدث باسم "أداما بارو"، إن الرئيس المنتخب يخطط لإلغاء بعض القرارات الغريبة التى كان قد اتخذها سلفه يحيى جامع، ومنها انسحاب جامبيا من المحكمة الجنائية الدولية الذى أعلن الشهر الماضى، مضيفًا أنه سيسعى كذلك للعودة للانضمام إلى دول الكومنولث، وإلغاء إعلان جامبيا جمهورية إسلامية.
وبعد عناء الماضى الذى طال قراب ربع القرن، تتحسس جامبيا مستقبلها على أيدى الرئيس الجديد، الذى وعد باستعادة الديمقراطية، وترك المنصب عقب ثلاث سنوات، ليفتح الساحة السياسية أمام دولة ديمقراطية جديدة فى غرب أفريقيا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة