لا أشك فى أن الفطرة الإنسانية تحمل ميلا غريزيا للفن، ولو بحثت فى داخلك فستجد نفسك فى إحدى مراحل عمرك تكاد تقترب من الفن الحقيقى، فغالبية البشر تبدأ فى مهدها بالاهتمام بالفن، الأطفال يفرحون بالأقلام والورق ويحاولون قدر استطاعتهم رسم أى شىء أو «الشخبطة» على أى شىء، الصبية ما أن يشعروا بوهج الحب فى أعماقهم حتى يمسكوا بالورقة بالقلم ليسطروا خواطرهم فى جمل شعرية بسيطة ومتوهجة، تجلس منفردا فتجد نفسك ممسكا بالورقة والقلم، محاولا رسم أشكال أو مربعات أو دوائر، تختلى بنفسك فتتذكر أغنية جميلة فتدندنها، لكن للأسف تغيب تلك الروح الفنية فى زحام الحياة بفعل فاعل، فيسود التجهم ويغيب الأفق ويتغلب الجانب «البدائى» على الجانب «الراقى» فى النفوس.
يغيب الفن فيحضر العنف، يغيب الفن فيحضر التطرف، يغيب الفن فيحضر القبح، يغيب الفن فتتشوه العقول، ولهذا فإن المشروع الحضارى الأمثل الذى يجب على الدولة تبينه هو «سيادة الفن على الحياة»، ومن هنا يمكن اعتبار الفن «أمن قومى» يوفر على الدولة مليارات مهدرة، وطاقات معطلة، كما يوفر عليها تكلفة إصلاح ما تهدمه النفوس الخربة، فالثقافة ليست للمثقفين والفن ليس للفنانين، فقد كانت مصر قوية حينما كان نجومها على شاكلة العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وفاتن حمامة ومحمود سعيد، وأصبحت فى قاع القاع حينما ارتفعت أسهم التافهين وتصدروا المشهد فى الصحافة والفضائيات، وهنا لا يجب أن نتعجب إذا ما أصبح «عبده موتة» أو «رفاعى الدسوقى» هو القدوة والمثال، لأننا لم ندافع عن «رأفت الهجان» أو «الناصر صلاح الدين».
من أجل هذا فإننى لا أخفى عليك قدر سعادتى بما حدث فى صالون الشباب أمس الأول، وحالة الاحتفاء التى عاشتها الطفلة الفنانة «خلود عبدالمنعم» التى أشاد بها وزير الثقافة «حلمى النمنم» وأوصى بتكريمها بعد أن رأى لوحتها المشاركة بالصالون، فى حين أنها لم تتجاوز عامها السادس عشر، وهذا اتجاه استراتيجى حميد يجب أن يسود فى قطاعات الوزارة كلها، فأطفالنا فنانون بالفطرة، لكن نقص الرعاية هو ما يدفعهم ليس إلى نسيان الفن فحسب، وإنما التنكر له أيضا، فيصبحوا بهذا صيدا سهلا للأفكار المتطرفة والنوايا الخبيثة، وما ينقصنا فحسب هو تنظيم هذا الاحتفاء فى مسار واضح، لكى لا نضع مستقبلنا فى يد الصدفة، ولهذا أتمنى أن تزرع الدولة ممثلة فى وزارة الثقافة مناسبة لائقة لاكتشاف هذه المواهب وتكريمها لكى يصبح إبداع أبنائنا لنا وليس علينا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة