تجديد التفكير الدينى
(13) التدين ليس دِينًا
إن " الدين " مكوِّن أصيل من مكونات الإنسان الروحية والنفسية ؛ إذ يخاطب الفطرة السليمة بكل روافدها ، فيخاطب الروح والقلب والوجدان فى الأمور الغيبية ، ويستدعى العقل فى إثبات الحقائق العلمية من خلال التفكير السوى فى السبب والمسبَّب والمؤثِّر والأثر والمقدمة والنتيجة ، حتى يصل غالبًا إلى البراهين الدالة على حقائق الأشياء ، وتبدو بعض مظاهر الدين فى الوقت ذاته عن طريق الجوارح التى من المفترض أن تكون ترجمة لما فى القلب .
ولذلك جاءت الأديان الإلهية كلها متفقة على تلبية حاجة الإنسان المتعددة ، ولم يختلف دين عن آخر فى هذا ، بدليل قوله تعالى : ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [ الشورى : 13] .
والدين بهذا المعنى الشامل المحتاج إليه لا بد أن تحكمه قواعد ويُفْهَم من خلال ضوابط ، فى إطار منهجى مستقر ومتفق عليه ، بحيث إذا اختلف فى شيء منه اثنان رجعا إلى ذلك المنهج الحاكم بأصوله وقواعده وضوابطه ، فعلم كلاهما مَن المصيب ومَن المخطئ .
والدين بهذا المعنى المنهجى المنضبط يُعَدُّ عِلما بالمصطلح المُتَعارَف عليه عند الفلاسفة والحكماء وعلماء المناهج وأصول العلوم ، فقد ذكروا عشرة مبادئ يكون بها الشيء عِلْمًا ، وهى أن يكون له : تعريف يحدده ، وموضوع يميزه عن غيره ، وغاية من دراسته ، ونِسْبة إلى غيره من العلوم أهو يرادفها أم يختلف عنها أم يشترك معها، أم يدخل فيها ، وأن يكون له فضل بين العلوم ، ومَن أول واضعٍ له بالتأصيل والتدوين ، وهل له اسم يُعْرَف به، وما مصادره ومِن أين يُسْتَمَدُّ ، وأن يكون له حُكْمٌ فى الشرع من حيث إنه واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه أو حرام، وما مسائله المعروف بها . وقد جمع بعض العلماء هذه المبادئ العشرة فى قوله :
إن مبادِى كلِّ فنٍّ عشرهْ --------- الحدُّ والموضوعُ ثم الثمرهْ
ونسبةٌ وفضلُهُ والواضع --------- والاسمُ الاستمدادُ حكمُ الشارعْ
مسائلٌ والبعضُ بالبعضِ اكتفى ------- ومن درى الجميعَ حازَ الشرفا
وعند التحقيق بل عند الوهلة الأولى نجد " الدين " متحقِّقًا بهذه المبادئ ، ومِن ثَمَّ فهو علم من العلوم ، بل هو أشرفها لشرف موضوعه وواضعه، ولذلك أيضًا كان ولا زال له أهله المتخصصون فى كل فرع من فروعه .
أما " التدين " فهو مجال أو تطبيق لهذا العلم " الدين "، أو بمعنى آخر كيف ينزل الإنسان هذا العلم على الواقع، وتخضع ممارسته وتطبيقه للصواب والخطأ بمدى التزامه بالفهم الصحيح لذلك العلم، وبهذا افترق " التدين " عن " الدين "؛ إذ قد يوصف الأول بالصحة أو البطلان الخاضعين للمارسة، فى حين لا نستطيع إطلاق لفظ الخطأ أو البطلان على الثاني؛ لأن العلوم ثابتة وتطبيقاتها متغيرة .
ولهذا فليس لأحدٍ أن يتهم الدين ولكن له أن يتهم التدين؛ إذ قد يكون التدين ناقصًا أو مغشوشًا أو مشوَّهًا أو متشدِّدًا، وبذلك الفهم لم يأتِ " الدين " فى القرآن الكريم إلا فى مقام العلم والمدح، كما فى قوله تعالى : ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الروم : 30]، وقالها يوسف عليه السلام : ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[يوسف : 40 ] .
ومشكلة هذا العصر أن فئاتٍ ممن يدَّعُون التدين يخطئون فى فهمهم للدين ومن ثَم فى تطبيقهم لأحكامه ، فينظر الناس إلى تدينهم المتشدد هذا فيلصقون هذا الوصف وغيره من الصفات المذمومة للدين ، والدين من تطبيقات هؤلاء المتشددين بَرَاء ، ولا يعرف ميزان تلك التفرقة إلا أصحاب الفطرة السوية الذين يرجعون دائمًا إلى أهل التخصص ( علماء الدين) ، وهم مَن أمرنا الدينُ نفسه بالرجوع إليهم عند الشك فى الممارسة أو التطبيق ( التدين )، حيث قال سبحانه : ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[النحل : 43] .
وأصدق مثال للتفرقة بين العلم وتطبيقه ، أو بين الدين والتدين ، هو ما ورد عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى »( رواه البخارى ومسلم ) . فقد أظهر الثلاثة خطأً وتشدُّدًا فى تدينهم وتطبيقهم للدين ، وهم فى عصر النبوة ومعهم وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل حاك فى صدورهم التقليل من عبادته وزهده ، فغضب النبى صلى الله عليه وسلم وبيَّن لهم وللعالمين – خاصة لمن كان على شاكلتهم وهم موجودون فى كل عصر – أن المعيار هو العلم " الدين " وليس التطبيق والممارسة " التدين "، وأظهر لهم التطبيق الصحيح للدين، ليظل نبراسًا لكل متلمِّس حق ٍّإلى يوم القيامة .
إن مثل هذه التطبيقات المخطئة – ولو كانت باسم الدين – كانت سببًا للتشدد على النفس والغير ، وعاملًا أصيلًا فى تشويه صورة الإسلام فى داخل البلاد وخارجها، مما ينتج عنه تنفير الناس من "الدين" بسبب "التدين" العقيم ، وسلوك الطريق غير المستقيم ، وبه نشأت العداوة للإسلام والمسلمين، وظهرت حالة (الإسلاموفوبيا) أو الخوف من الإسلام .
ويكفى التدين المغشوش إثمًا وخطيئةً أنه يفرِّق بين أبناء الوطن الواحد؛ بل بين أتباع الدين الواحد، والأدهى أنه يصل فى بعض الأوقات إلى أن يفرِّق بين أفراد الأسرة الواحدة .
ومجمل القول وحاصله : أن الدين علم؛ والتدين تطبيق ذلك العلم؛ وأهل العلم يدركون أن العلم حاكم على التطبيق؛ والجاهل من يجعل التطبيق حاكما على العلم؛ فيقع فى إثمين كبيرين : يوهم الناس بأنه هو العلم أو فوقه فيظلم بذلك نفسه؛ ويضلل البسطاء باسم الدين فيشوهه وينفِّر الناس منه فيغضب ربه، ويقع تحت قانون وعيده : ﴿قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا﴾[الكهف : 103، 104].
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة