مصر وصلت إلى هذا المستوى فى اتخاذ القرار نتيجة تاريخ امتد لسبعة آلاف عام
الفارق دائما بين مصر وكثير من الدول العربية الشقيقة التى قد تتصور نفسها أكبر من حجمها لسبب أو لآخر، أن مصر لا تتعامل بمنطق النزوات الوقتية التى لا تحسب عواقبها، ولا تتهور فى مواقفها، فمصر دولة لديها من الخبرة والحكمة ما يجعلها ثقيلة الخطى رزينة القرار، فلا تجرى دون وعى ولا تغرق فى وحل لا سبيل للخروج منه.
معلوم طبعا أن مصر لم تصل إلى هذا المستوى فى اتخاذ القرار من فراغ وإنما نتيجة تجارب وخبرات وتاريخ امتد لسبعة آلاف عام، كانت خلالها دولة متكاملة الأركان، لديها جيش ودبلوماسية وحكومة مركزية، ورغم سخرية البعض من أننا دائما نتفاخر بأن لنا حضارة سبعة آلاف عام إلا أننا نعرف قيمة هذه الحضارة عندما نراجع قرارات وتوجهات دولتنا على مدى هذا التاريخ فنجدها دائما لها أساس وخبرة تاريخ تسندها وتحصنها من الخطأ، وعندما يحدث الخطأ يكون التصحيح سريعا وباحترافية.
تأثير الخبرة والتاريخ المصرى ظهر فى عشرات، بل مئات القضايا والملفات التى تخيلت قوى إقليمية ودولية أنها يمكن أن تفرض فيها رأيا أو توجها على مصر، والبعض أعتقد أنه بالفلوس والثروات يمكن أن يقود العالم أو يفعل ما يشاء، لكن مصر بتاريخها كانت الأقدر على قراءة الواقع واستشراف المستقبل فوضعت السيناريو الأصوب الذى كان فى النهاية هو محل الاتفاق.
فى الإرهاب مثلا كانت مصر منذ تسعينيات القرن الماضى أول من حذر بأن العالم كله سوف يكتوى بناره، وأن القوى التى تدعم الإرهاب هى التى ستدفع الثمن، وبعد عقود من التكبر على الرؤية المصرية عاد العالم ليعترف بصحتها ويتحدث قادة دول كبرى عن دور مصر فى مواجهة الإرهاب، بل ويلجأون للتعاون معها للاستفادة من خبرتها ورؤيتها وتدعى القيادات المصرية لتشرح استراتيجيتها فى محاربة الإرهاب.
فى الهجرة غير الشرعية كان الموقف المصرى هو الأكثر وضوحا وإيجابية، لكن لمصالح مختلفة كانت بعض الدول الكبرى ترفض الرؤية المصرية وفى النهاية عاد الجميع يطلب المساندة المصرية لمواجهة هذا الخطر الذى لم يعد فقط يهدد حدودهم، بل اخترق بيوتهم، وليس بعيد عنا المطالبة الإيطالية لمصر بدعمها فى مواجهة الهجرة غير الشرعية.. فى الملف السورى اتجه الجميع إلى الحل العسكرى من أجل مصالحهم الضيقة ونزواتهم وانغمسوا فى الصراع ودعم جماعات مسلحة وتنظيمات إرهابية دون وعى بخطورة هذا على المنطقة، بينما كانت مصر بخبرتها وعقلانيتها تنادى الجميع بالحل السياسى، ووضعت تصورا رفضه الجميع وهم الآن من يبحثون عنه ويشيدون بالرؤية المصرية التى كانوا يسخرون منها.. فى الملف الليبى كانت التحذيرات المصرية مبكرة من أن نتيجة التدخل الدولى الأهوج ستكون الفوضى، ولكن الغطرسة الأمريكية والغربية جعلتهم لا يستمعون إلى صوت مصر العاقل، والآن وبعد أن حدث ما حذرت منه مصر يناشدون القيادة المصرية التدخل ودعم جهود إعادة ليبيا، كما أن الشعب الليبى نفسه أدرك أن مصر كانت الأكثر فهما لطبيعة بلادهم وللخطر الذى كان يتهددها وكانت الأحرص على أمنهم ومستقبلهم.
ولو عددنا الملفات المختلفة والرؤية المصرية فيها لأدركنا كيف أن التاريخ المصرى وخبرتها السياسية والدبلوماسية، بل والعسكرية أيضا كانت حاسمة فى وضع التصور الأكثر واقعية والأفضل للحل وليس للتدمير. أردت سرد بعض الملفات التى كانت لمصر فيها الرؤية الأقرب للواقع كى يدرك الجميع أن التعامل مع القضايا الدولية لا يكون أبدا على أساس القوة المتوهمة ولا يمكن أن يتخيل البعض أنه بإمكانه تشكيل الدول وتغيير الأنظمة بالأموال، وإنما لابد من العقل والحسابات الدقيقة والرؤية الاستراتيجية التى لاتمتلكها الا مؤسسات دولة لها تاريخ تعرف كيف تسير وأين تضع أقدامها حتى لا تسقط فى الوحل، وهذا ما تمتلكه دولة اسمها مصر لا تجرى وراء نزوات وقتية ولا تتخذ مواقف للمكايدة وإنما للمصلحة العربية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة