سألنى صديق: منذ متى وأنت تحب الآثار المصرية هكذا؟ فقلت: منذ ذلك اليوم الذى بكيت فيه بحرقة حينما سرق «كرسى النعمانى» من حسن أرابيسك.
تحفة فنية أراها اليوم بعد دراستى للآثار الإسلامية ورؤيتى لآلاف القطع الفنية الإسلامية الراقية «عادية» لكن «صلاح السعدنى» فى مسلسله الأشهر «أرابيسك» جعلنى مؤمنا تماما أن عبقرية هذا البلد تتخفى حينا وتغيب حينا وتتوه حينا، لكنها تعلن عن نفسها بكل نصاعة فى الوقت غير المتوقع وأورثنى حسن أرابيسك عشقا مزمنا لهذه الأرض بما تحوى من جمال وبما يحيط بها من آلام وآمال.
بالنسبة لى صار ت شخصية ابن البلد متجسدة فيه، هو ابن البلد، بالألف واللام، شهامته، جدعنته، شجاعته، تصعلكه، أحلامه، خفة دمه، تهوره أحيانا، وتعقله أحيانا، ميله للصدق حتى ولو على حساب راحته أو حريته، استهزاؤه بالصعاب والمصائب، سخريته من التدنى والتكالب، حتى مشيته العابثة المترنحة، صورته وهو يمشى آخر الليل صارت بالنسبة لى معادلة أيقونية له، يخطو فى الشوارع وكأنه ملكها، يضرب أحجار التعثر فى الأرض وكأنه يؤدبها يربت على البيوت القديمة الدافئة بنظرة من عينه الحانية، يشق الهواء بصدره المفتوح كفارس لا يتهيب من غبار المعارك، يبتسم حتى تكاد تسمع صوت ابتسامته، ثم يتجهم فتكاد تسمع أصوات قبيلة من نحيب، أصله الشارع أو قل هو أصل الشارع.
لم يمتلك تلك الوسامة الأنثوية لتتهافت عليه النساء، ولم يمتلك مالا أو جاها ليتقرب منه المدعون، خشنا كان، لكن خشونته هذه نصبته إنسانا متوجا بالرجولة، قديما كانوا يطلقون على من يشبهه وصفا محببا لم نعد بكل أسف- نستخدمه، كانوا يقولون هذا «ولد عترة» وفى الغالب عترة هذه تعنى «ابن أصول» واشتقاقها جاء من حالة الافتتان بعترة الرسول من آل البيت، صورة مركبة، من فتوة الحسين وحكمة الحسن ونبل الصادق ورزانة الباقر، تراه فتشعر به وكأنه سائر فى الأزمان كما هو سائر فى الشوارع، غير عابئ بشىء، غير مكترث بشىء، غير متأثر بشىء، وهو المؤثر لا المتأثر، هو هو، الباقى على حاله وإن تغير كل شىء، ثابت لا يتحول، صامد لا يلين، تحبه وإن عجزت عن الاقتداء به، تتمنى أن تصاحبه ولا تقوى على تقليده، صورة حقيقية نفتقدها كما نفتقد شخصية «ابن البلد» ونشتاق إليها كما نشتاق إلى المحفور فى كل قلب «صلاح السعدنى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة