هذا درس بالغ القسوة لمن ينظرون إلى الواقع عبر شاشات التليفزيون، ومن يعتقدون أن نجوم السينما وصناع الأكشن ومبتكرى برامج الألعاب الإلكترونية هم الذين يتحكمون فى الرأى العام، هذا درس شديد الخطورة لجميع رؤساء العالم وجميع المنظرين الاستعراضيين الذين كانوا يتحدثون بثقة العالم ببواطن الأمور وخفاياها، درس لن ينساه من يضع العربة أمام الحصان، فيجعل من رغبته إمامًا لتحليلاته، ومن أمنياته واقعًا، ومن نظارته الضيقة دليلاً لرؤية العالم الواسع، فاز دونالد ترامب برئاسة أمريكا، وهو الرجل الذى راهن معظم رموز أمريكا من الإعلاميين والفنانين والكتاب والصحفيين والمثقفين والخبراء السياسيين وغيرهم ممن لا نستطيع إحصاؤه على سقوطه بالضربة القاضية أمام منافسته «هيلارى كلينتون» معتقدين أنه سيكون لقمة سائغة فى نزهة انتخابية، وأعتقد أن هذا الفوز «التاريخى» سيظل عالقًا فى تاريخ السياسة العالمية باعتباره «أملاً» فى تحطيم الثوابت والمسلمات والنظريات المعلبة الراسخة.
اليوم هزم «ترامب» جميع الثوابت التاريخية الأمريكية بصراحته ووضوحه «الفج»، هزم الدعاية الرخيصة التى مارسها البعض ضده باعتباره «متحرشًا»، التى أراد البعض بها نصرة «هيلارى» زوجة أشهر متحرش فى تاريخ أمريكا، هزم رجال الأعمال و«شعب السوشيال ميديا» هزم مدعى المثالية الكاذبة بعفويته وحماقته المعلنة، هزم تكتلات الدولة العميقة بكل تأثيرها، وهزم الصحافة الموجهة التى أغفلت تجاوب الرأى العام مع خطابه، هزم احتكار السياسيين للمناصب العليا، مضيفا لتاريخ أمريكا نموذجا جديدا لحاكم «بيزنيس مان» يحاور السوق يوميا ويعقد الصفقات الناجحة وينمى ملياراته بعرق جبينه، حتى إن اتهمه خصومه بالتلاعب فى ملفاته الضريبية، والأهم من هذا كله هو أنه هزم الخوف التاريخى من الشيوعية، مجاهرًا بإعجابه بالرئيس الروسى بوتين واستعداده للتعاون معه فى المستقبل، وفى الحقيقة فإنه لو لم يفعل «ترامب» غير هذا الأمر لكفاه.
اليوم هزم ترامب كل خصومه بالضربة القاضية، وهو ما سيعطيه شرعية كبيرة فى قيادته للولايات المتحدة، فقد وصل إلى البيت الأبيض بمجهوده الشخصى، لم تدعمه نخبة، ولم يقف وراءه صناع الرأى العام، وفى الحقيقة لو أراد ترامب أن يدعم استقرار حكمه فأول شىء يجب عليه فعله هو أن يتغاضى عن هذا كله، ويصبح رئيسا لمعارضيه قبل مؤيديه، فهو كما قلت فى 17 يونيو الماضى معددا «حسناته» الشرس على الإرهاب، الشجاع حتى الحماقة فى فتح الملفات المسكوت عنها، والقادر على إسكات المتطرفين الأمريكيين، صاحب لغة «المصالح المباشرة» الذى يعرف ما لا يعرفه السياسيون من وسائل محاورة السوق وطرق عرض الذات وأساليب المناورة فى اللحظات الأخيرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة