كلما حلت النوائب بمصر جراء أفعال شيطانية من جانب بعض أبنائها الأشرار، لابد أن تطرأ على ذهنك على الفور عبارة المتنبى الشهيرة : "كم ذا بمصر من المضحكات، ولكنه ضحك كالبكاء"، وهى غالبا ما تأتى على سبيل توصيف ساخر لما يجرى من ممارسات عجيبة وغريبة تخرج عن سياق العقل والمنطق، لكنها لا تدفع بالضرورة إلى وقف نمو سرطانى لمنظومة الفساد الذى يستهدف قوت البسطاء من هذا البلد .
فالمتابع لما يجرى على أرض المحروسة يصاب بالذهول من ممارسات احتكارية للسلع والاحتياجات الأساسية للمواطنين المطحونين من جانب أولئك الذين أدمنوا لعبة التحكم بأقوات الشعب، وفى تحد صارخ اعتادوا مخالفة القانون إلى الحد الذى أصبحنا نتجرع كفعل اعتيادى يومى مع قهوة الصباح أخبارا عن ضبط مليون كيلو سكر ، وأكثرها استفزازا ما تم الإعلان عنه حول قيام رجل أعمال، صاحب مصنع بطريق المريوطية بتجميع كميات كبيرة من السكر لتخزينها و رفع الأسعار وإعادة بيعها بالسوق السوداء، إذ قامت مباحث التموين بمداهمة المخزن المملوك لرجل الأعمال والموجود خلف الفيلا التى يقيم بها ليجدوا بداخله 1000 طن سكر أى ما يعادل مليون كيلو جرام جلبها من مصنع الدقهلية لإعادة بيعها واحتكار كميات كبيرة و التلاعب بالأسعار .
هذا بخلاف آلاف من الأطنان الأخرى من السكر وغيرها من عبوات الزيت المدعوم من الدولة للمواطنين الغلابة، ناهيك عما حدث فى لعبة عبوات لبن الأطفال، وفساد القمح والأرز واللحوم، وغيرها من سلع تكشف عن ممارسات احتكارية لا تقل بشاعة عن القتل المتعمد، بل إنها محاولات واضحة لقتل الفقراء واستغلال الأزمات للإضرار بالبلاد والأمن القومى من أجل تحقيق مكاسب مالية بصرف النظر عما سيترتب عليها من أضرار جسيمة، وللأسف فإن هذه الأزمات المفتعلة يرجع سببها فى المقام الأول والأخير إلى جشع غالبية التجار، فالكبار والصغار منهم على حد سواء يتمتعون بقدر لابأس به من خراب الذمة ، وغياب الضمير طالما أمنوا العقاب وأدمنوا فن التحايل بأساليب ملتوية للإفلات من سيف العدالة.
ظنى أن مواجهة الممارسات الاحتكارية للسلع الغذائية فى مصر الآن، ليست مسئولية الحكومة فحسب، بل إن هنالك دورا منوطا بالمواطنين والأحزاب والقوى السياسية بضرروة مراقبة التجار والسلع وحركتها فى السوق والإبلاغ عن ارتفاع سعرها أو اختفائها بهدف رفع سعرها، ويبقى دور مجلس النواب فى هذا السياق فى التحرك السريع لوضع حد لاحتكار بعض السلع الضرورية من جانب بعض التجار، من خلال تشريعات تتضمن مواد صارمة فى العقوبات المتعلقة بالتجار المحتكرين للسلع، وتضمن فى الوقت نفسه سرعة تنفيذ العقوبات التى تصل للسجن المشدد، أو الإعدام شنقا وفى ميادين عامة لمن يثبت تلاعبه بشكل عمدي، وتشديد مصادرة السلع المحتكرة وإعادتها لخزينة الدولة، فلا يمكن بأى حال من الأحوال التعامل بلين ورحمة مع التجار الذين يحتكرون السلع ويسعون لتعطيش السوق وتجويع المواطنين.
لنا فى وثيقة نادرة نشرتها مجلة " الأهرام الزراعى " الأسبوع الماضى أسوة حسنة ، حيث أنها توضح الأسس التى اتخذها محمد على باشا والى مصر حين أصدر فرمانًا ، تم توزيعه لكافة المديريات ، ومنها ولاية درجا "جرجا"، التى كانت تضم "قنا وقوص" بإجبار المزارعين والمواطنين ومشايخ البلاد على زراعة الأشجار على جانبى الطرق والجسور والترع تخفيفا من حرارة الجو من ناحية ، وإشاعة الظل والاستفادة من الأشجار دون أن يحدد نوعية الأشجار فقط ، أو منافع زراعة الأشجار للدولة والمزارعين معا، وبمجرد ظهور بعض المتكاسلين ، والذين يرفضون تنفيذ القرارات فما كان عليه إلا أن يصدر فرمانا آخر تم المناداة عليه فى الشوارع، مؤكدا أن لم يفعل فذنبه على رقبته ، وأنه سيوقع العقاب على المتكاسلين كالعبد الآبق ، أى المتمرد ، ولم توضح الوثيقة التى تمت كتابتها منذ 200 سنة تقريبا كيفية العقاب الذى سيوقعه محمد على باشا على المتكاسلين بالزراعة ، وذلك لتنوع أساليب العقاب الذى وضعه بمعارضيه من جهة وبالمحتكرين للسلع ، ولمن قاموا برفع سعر العملة وتزويرها حيث أعدم المحتكرين ، ومن قاموا برفع سعر العملة على باب زويلة ليكونوا عبرة لمن يعتبر .
وفى ظل ما تشهده مصر من أزمة غلاء كبيرة بطلها الرئيسى ارتفاع قيمة العملات الأجنبية وتحديدا " الدولار " أمام انكماش قيمة الجنيه بشكل أصبح ضبط أسعار السلع الأساسية للمواطنين خارج سيطرة الحكومة و البنك المركزى، الأمر الذى يؤدى إلى تدخل الرئيس السيسى بنفسه بين الحين والآخر لإنصاف المصريين البسطاء ووعده للمصريين بحل سريع لأزمة ارتفاع الأسعار ، يبقى لازما علينا جميعا التكاتف مجبربين لاستخدام القوة التى استخدمها جدنا الأكبر محمد على باشا، كى يقوم المواطنون بتفعيل القوانين ، وبنفس لغته فى التهديد والوعيد حين قال فرمانه: "والذى لم يوجد على رأس غيطه على طريق أو على ترعة أو على جسر فلابد أن يحصل له القصاص الأبق به ويبقى ذنبه فى رقبته" ، وهو التحذير الذى أعلنه المنادون فى شوارع الصعيد لمدة طويلة، وينبغى أن ينادى به نواب الشعب الحاليون تحت القبة وفى دوائرهم ، لكى لا يكون هناك عذر لأحد رفض تنفيذ القرار حين يقع عليه العذاب، ويطالبون كما طالب والى مصر الأقوى جميع المواطنين بتفعيل ما جاء فى الفرمان حرفا بحرف".
الأمر جد خطير فالمتحكمين فى السلع الأساسية هم حفنة من رجال أعمال ينطبق على البعض منهم اتهامين، الأول هو استغلال غياب الرقابة وضعف بعض الأجهزة الحكومية ، واللعب بالأسعار نحو الإرتفاع لتحقيق مزيد من المكاسب مستترين بغطاء أزمة الدولار، والتهمة الثانية هى الاحتكار علما بأن عددهم لا يتجاوز أصابع الأيدى فى كل قطاع ، ولتكن البداية هنا مع تجار ومستوردى اللحوم فى مصر ، فعدد من يملكون سوق اللحوم فى مصر لا يتجاوز 15 شخصا فقط ، هم فى واقع الأمر يمثلون مافيا اللحوم ، وتتجاوز حجم تجارتهم 10 مليارات جنيه ، ويستحوذون على 80% من سوق استيراد اللحوم من الخارج ، بما يتجاوز 2 مليون طن لحوم سنويا، وهى النسبة التى تمثل حاليا أكثر من 50% من استهلاك المصريين، ومنهم واحد فقط يعتبر بمثابة امبراطور اللحوم الحية المستوردة، والمتحكم الرئيسى فى السوق المصرى نظرا لأنه يستحوذ على أكثر من 30% من سوق اللحوم المستوردة فى مصر، إلى جانب اللحوم فإن السكر والأرز يحتل مرتبة مهمة على صعيد السلع الشعبية والأساسية، فرغم توافره فى الأسواق بكميات كبيرة طبقا لوقائع الضبط الأخيرة، يقع السكر والأرز فى قبضة الكبار، يحتكرون الأسواق على هواهم الشخصى، ويتحكمون فى الأسعار بطرق مريبة وغير آدمية، وهو ما يبدد أحلام الفلاحين فى بيع محصولهم بشكل يكفى مصروفات زراعته وعرقهم .. لا سامحهم الله فى أفعالهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة