ينظر الكثير من المتابعين للشأن الثقافى فى العالم العربى إلى معارض الكتب الدولية بوصفها مساحة للقاء الناشرين، وتسويق الكتاب، وعقد حفلات توقيع الإصدارات الجديدة، فيما الواقع يشير إلى ما يتجاوز ذلك بكثير، فالمعارض تتعدى دورها المتمركز فى الكتاب، وفكرة النشر لترتبط فى الواقع الاقتصادي، ومفهوم السياحة بمختلف أشكالها، إضافة إلى ما يمكن وصفه بالصورة التاريخية للحضارات والبلدان.
قد يبدو هذا انزياحاً نحو مساحة مغايرة لما تقدمه معارض الكتب بشكلها التقليدي، إلا أن العارف لكواليس تنظيم المعارض، والعارف لقائمة الأرقام الظاهرة عقب انتهاء المعارض، والمتمعن للأثر التاريخى المتنامى سنة تلو سنة، يجد أن فكرة معرض الكتاب تمضى على أكثر من مسار فى الوقت ذاته، وكل مسار فى ذاته مركزياً ومهماً لفكرة النهوض بمختلف أشكال هذه المعارض المعرفية، والحضارية، والاقتصادية، وغيرها.
يمكن قراءة أهمية معارض الكتب فى قدرتها على تجاوز شكلها الظاهر بتتبع واحدٍ من المعارض الفارقة فى تاريخ الثقافة العربية، وتحقيق المقاربة والمقارنة مع ما يقابله من معارض دولية لها تاريخ يصل إلى مئات السنين، فالواقف عند الأثر الذى حققه معرض الشارقة الدولى للكتاب، يجد أنه استطاع تقديم صورة مغايرة عن النشر فى العالم العربي، ويحقق التواصل الفاعل بين الكاتب، والناشر، والمؤسسات المعنية بالكتاب على نطاق دولى يتجاوز الجغرافيا العربية، وحتى الآسيوية، والشمال الأفريقية، ليصل إلى القارة الأوروبية، والأمريكيتين.
يتجلّى هذا الأثر وأهميته بالوقوف عند اتفاقيات النشر والترجمة التى جرت بين مؤسسات النشر العربى والنشر الغربي، من خلال البيئة التى وفرها معرض الشارقة لهذه المؤسسات للتواصل وعقد الصفقات، فالمعرض يستقطب كبار الناشرين فى العالم، ويقدم لهم واحدة من الصور الضرورية عن المثقف، والكاتب العربي، من خلال مستويات التنظيم، وحجم العناية، والتنوع فى عرض واقع الثقافة العربية، وهو ما جعل من هؤلاء الناشرين أكثر إدراكاً لأهمية ترجمة أعمالهم وتقديمها لهذا المثقف، ما زاد من حركة الترجمة فى دولة الإمارات والعالم العربي.
ربما تكون الصورة الواضحة والحقيقة هى التى ظل المشهد الثقافى العربى يفتقر إليها، فغياب أسماء الكتّاب العرب عن الجوائز العالمية، والتقصير الواضح فى ترجمة أعمالهم إلى أهم لغات العالم، مرده إلى الصورة الغائبة عند المثقف الآخر، أو الحراك الثقافى فى إطاره العالمي، إذ حتى اليوم لم ينل جائزة نوبل للآداب سوى كبير الرواية العربية الراحل نجيب محفوظ، فى الوقت الذى قدّم الكثير من الروائيين والكتّاب والشعراء منجزاً فذاً يستحق لفت نظر القارئ العالمى إليه.
من جانب آخر، حقق معرض الشارقة الدولى للكتاب لحركة النشر والتأليف على صعيد دولة الإمارات، الكثير من الإنجازات، فالمتابع لعدد دور النشر الإماراتية يجد أنها حققت طفرة نوعية، وكمية، خلال الخمسة أعوام الأخيرة، وحقق احتكاكها مع كبار دور النشر العربية والعالمية فرصةً لاكتساب خبرات فى الطباعة، والتسويق، والتوزيع.
ليس ذلك فحسب ما يمكن قراءته فى تتبع مسارات معارض الكتاب فى حضورها الفاعل، إذ تُفعّل المعارض حركة السوق التجارية والاقتصادية، وتحيى النشاط السياحى بكل مستوياته، فمثلما هناك سياحة استجمامية، وسياحة علاجية، أنتجت معارض الكتب الكبرى ما يمكن وصفه بـ"السياحة الثقافية"، إذ يتوافد القراء إلى الدولة المنظمة للمعارض، ويقيمون فيها خلال فترة المعرض، لتحقق أعلى مستويات الاستفادة الثقافية مما تقدمه المعارض سواءً من الندوات، أو عروض الكتب، أو الأمسيات، أو غيرها من الفعاليات.
يظهر هذا النوع من السياحة خلال فترة معرض الشارقة الدولى للكتاب، فبلدان الجوار الخليجي، تتوافد إلى الشارقة، لتحقق زيادة واضحة فى نسبة الإشغال الفندقي، وتظل طول أيام المعرض متابعة لمجريات المعرض وجديده، وكثير منهم يحضر لشراء كميات كبيرة من الكتب لمكتبته المنزلية، أو للمكتبات المدرسية والجامعية والتجارية، وهذا الأمر يعمل على تنشيط حركة الشحن أيضاً، هذا إضافة إلى الناشرين أنفسهم وما يشكله حضورهم من إنعاش للحركة الاقتصادية فى الدولة.
كل هذه الأدوار التى تتحملها معارض الكتب العالمية، تبدو متغيّرة وهامشية مقارنة بالدور التاريخى الذى يمكن للمعرض أن يحققه لبلده وشعبه، فالكثير من معارض الكتب فى العالم باتت علامة فارقة فى التاريخ الحضارى للبلدان بحيث صارت جزءاً من هويتها أمام سائر البلدان والحضارات، فكما ينظر العالم إلى باريس فى برج إيفل، ينظر العالم إلى فرانكفورت بتاريخ معرض كتابها الدولى الذى يعد أكبر معرض للكتاب فى العالم ويعود تاريخه إلى خمسمائة عام ماضية.
لذلك لا يمكن الاكتفاء بالنظر إلى الإنجازات الراهنة لمعرض الشارقة الدولى الكتاب وحسب، فالعقود المقبلة والسنين، ستكرسه كواحد من الشواهد الحضارية التى تقدّم صورة الشارقة، والإمارات لسائر ثقافات العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة