حينما طلب المهندس إبراهيم محلب خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير تقديم تقرير أسبوعى له عن جهود النظافة، وتدوير المخلفات على مستوى الجمهورية، فإنه بذلك يؤكد- وبما لا يدع مجالاً للشك- أن تعامل الدولة مع أزمة مشكلة القمامة يختلف كثيرًا عما كان يحدث من قبل، وأن الأمر لم يعد- حسب الاعتقاد السابق- مجرد سحابة صيف سرعان ما تزول، حيث تختفى القمامة بالفعل من الشوارع والميادين الرئيسية فقط، ثم «تعود ريما لعادتها القديمة»، وتننشر القمامة مجددًا فى كل مكان بشكل يفوق التصورات، وعلى هذا النحو الذى نراه الآن فى كل مكان.
نعم المسألة هذه المرة أخذت شكلاً مغايرًا، وسلكت طريقًا حقيقيًا، بل إنها أصبحت تهدد وبشكل مباشر بقاء المحافظين فى مناصبهم، فقد قالها رئيس مجلس الوزراء وبشكل قاطع، إن ملف النظافة بالمحافظات سيكون على رأس معايير التقييم لكل محافظة، وسيكون أيضًا هو الفيصل فى استمراره فى موقعه أو تركه هذا المنصب الذى لم يعد يحتمل ترف المحاولة أو التجريب، فمنصب المحافظ فى دولة تخوض حربًا من أجل التنمية، لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يكون المحافظ فيها أقل من مستوى رئيس مجلس الوزراء فى الهمة والنشاط والحركة الدؤوبة ليل نهار، كما أنه غير مقبول على الإطلاق أن يكون هناك مسؤول فى الدولة، سواء كان وزيرًا أو محافظًا، لا يفكر بنفس رؤى واستراتيجيات التحول الكبير الذى تسير عليه القيادة السياسية، فالرئيس الذى يحارب فى جميع الاتجاهات فإنه أحوج ما يكون الآن إلى مسؤولين كبار فى الدولة على نفس المستوى، وبنفس درجة الكفاءة فى التعامل مع الملفات الشائكة، واقتحام المشكلات الصعبة.
وأتوقف هنا أمام هذه الفوضى فى التعامل مع القمامة داخل القاهرة الكبرى، وعلى وجه الخصوص بمحافظتى القاهرة والجيزة اللتين لا أدرى ماذا يفعل محافظاهما الدكتور جلال السعيد، والدكتور خالد زكريا العادلى، وهل الاثنان راضيان عن أدائهما اليومى، بينما نرى القمامة تزداد وتتراكم وتزاحم الناس فى الشوارع بشكل يهدد الصحة العامة، ويفسد على الناس حتى مجرد التفكير فى السير على أرصفة الشوارع المخصصة للمشاة، فقد تحولت هذه الأرصفة إلى تلال من القمامة التى لا تتسبب فى إعاقة حركة المرور فقط، بل إنها تتسبب فى تفشى الأمراض أيضًا.
هل الدكتور جلال السعيد، محافظ القاهرة، يتحرك فى شوارع المحافظة، ويتابع ما يجرى على أرض الواقع؟، أعتقد أنه لا يقوم إلا بتلك الجولات التى يحرص عليها من أجل التقاط الصور التذكارية التى تكون عادة مليئة بالابتسامات التى تعطى انطباعًا لمن يراه، سواء عبر شاشات التليفزيون أو من خلال الصحف، أن كل شىء يسير على ما يرام، بينما الواقع فى حقيقة الأمر يقول عكس ذلك تمامًا، والغريب فى هذا الأمر أن تلك التصرفات تمر دون أن تستوقف مسؤولاً كبيرًا، وتتكرر يوميًا دون أن يحاسبه أحد، ودون أن تكون هناك وقفة حقيقية معه، وهو ما يدعونى إلى مناشدة اللواء عادل لبيب، وزير التنمية المحلية، المشهود له بالحكمة فى متابعة الملفات الشائكة، أن ينظر إلى ملف القمامة المتراكمة فى المحافظات، وعلى وجه التحديد هذا الوضع البشع فى محافظتى القاهرة والجيزة. والحق يقال فإن اللواء عادل لبيب له تاريخ مشرف فى مجال العمل التنموى، ولنا فى محافظة قنا خير دليل على ذلك، حينما كان محافظًا لها استطاع أن ينقلها من محافظة لا وجود لها على خريطة التنمية إلى محافظة تحتل الصفوف الأولى فى مشروعات التنمية المجتمعية، بل إنه نقلها نقلة حضارية، وما يزال يضرب بها المثل فى القدرة على تحويل القبح إلى أفضل مظاهر الجمال، الأمر الذى يجعلنى على يقين تام بأن اللواء عادل لبيب، وهو فى منصبه كوزير للتنمية المحلية، قادر على إيجاد حل عاجل لمشكلة تراكم القمامة فى المحافظات، وبالطبع ستكون القاهرة والجيزة فى مقدمة تلك الحلول، كما إننى على ثقة تامة بأنه لم ولن يتستر على تلك الأخطاء الفادحة التى يرتكبها محافظا القاهرة والجيزة فى حق الدولة، وفى حق المواطنين أيضًا نتيجة هذا الكم الهائل من التراخى، وعدم اتخاذ خطوات جادة لحل تلك المشكلة.
وبالطبع فإن علاج المشكلة لابد أن يسبقه علاج هذا الخلل فى أداء المحافظين، وفى إعادة الاعتبار للمنصب الذى ينبغى أن يحظى بمكانة فى المجتمع، فهل من المعقول أن نرى محافظًا مثل محافظ الجيزة يرى تلك الأكوام من القمامة تملأ الجيزة، ولا تفرق بين حى راقٍ وآخر شعبىّ، وللأسف الشديد، وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من النشر حول تلك المشكلة المزمنة فى جميع وسائل الإعلام، فإن الأمر لم يحرك له ساكنًا، وكأن تلك المشكلة لا تعنيه فى شىء، فى حين أن المنطق والعقل يقولان إنه ينبغى على المحافظ أن يتقدم باستقالته فورًا مادام يعجز عن إيجاد حلول عملية لهذه المشكلة، وتكون حلولاً منطقية، وتتم ترجمتها على أرض الواقع، لكن ما يجرى الآن من تصرفات اثنين من أبرز المحافظين فى الحكومة أمر لم يعد مقبولاً السكوت عليه، وأصبح مجرد إغماض العين عنه يعد جريمة فى حق البلد، وفى حق رئيس الحكومة، بل وفى حق السيد الرئيس أيضًا، خاصة ونحن نراه يتحرك بسرعة الصاروخ من أجل إنجاز العديد من المشروعات القومية الكبرى التى ستعود بالنفع على المجتمع ككل، بينما نرى تلك النوعية من المحافظين يسيرون خلفه بسرعة السلحفاة أو أقل قليلًا.
وبينما أتأمل تلك المشكلة المتعلقة بتراكم أكوم القمامة، لاحظت أن لتلك المشكلة العديد من الأبعاد التى ينبغى على الدولة أن تضعها فى الاعتبار من أجل إيجاد حلول جذرية وحقيقية لها، وأقصد هنا هذا الخلل الكبير فى الجهاز الإدارى بالمحافظات، وما يترتب عليه من فساد فى المحليات تفوح رائحته الكريهة فى كل مكان، فما الذى أوصلنا إلى هذا الحال فى مشكلة جمع القمامة؟ إنها الأحياء التى لا تقوم بواجبها على أكمل وجه، نعم فهى لا تقوم بواجبها كما ينبغى أن يكون، هى فقط تقوم بواجبها نحو الحصول على ما يحقق مصالحها الخاصة، فقد تحولت تلك الأحياء فى محافظتى القاهرة والجيزة، بل وفى محافظات أخرى عديدة، إلى عبء على المواطنين، لأن المواطن الذى يقوده حظه العاثر ويذهب إلى هذه المكاتب الحكومية فإنه يذوق المر، ويكره نفسه من كثرة الطلبات التى تكون فى ظاهرها قانونية، وتتم وفق اللوائح، لكنها فى حقيقة الأمر ما هى إلا وسيلة لابتزاز المواطن، ودفعه إلى أن يقوم بالبحث عن الأبواب الخلفية لقضاء مصالحه فى تلك الأماكن التى يعلم الجميع أن لها أبوابًا خلفية ليست خافية على الدولة، ولا على الأجهزة الرقابية، وهنا لا أتهم شخصًا بعينه، إنما أوجه اتهامى إلى جهاز كامل نخر سوس الفساد فى عظامه، وأصبح ظاهرًا للجميع رأى العين، لدرجة أن الرئيس السيسى فى أكثر من مناسبة تحدث عن الفساد الإدارى فى الدولة، ونوه بفساد المحليات على وجه الخصوص، وهو ما يدفعنى إلى القول بأنه إذا كان الرئيس يقود الدولة فى حرب ضروس ضد الإرهاب والتطرف، فإن حربه الحقيقية ومعركته الحاسمة هى التى يقودها ضد الفساد الإدارى فى الدولة، فأين المحافظون من كل هذا الذى يجرى داخل الأحياء التى تتبعهم إداريا؟ وما المبرر لبقاء رئيس حى يرتكب أخطاء فى حق عمله الوظيفى، وفى حق المجتمع؟ وهل يمكن أن يكون له اسم آخر غير أنه تواطؤ متعمد من محافظ يحتم عليه واجبه أن يبذل أقصى ما فى وسعه من أجل تحقيق تنمية حقيقية للمواطنين فى محافظته؟
لقد تحولت مشكلة تراكم القمامة إلى أزمة حقيقية، لأن تراكم القمامة لعدة أيام يتسبب فى انتشار الروائح الكريهة والفئران والحشرات التى تسبب أمراضًا خطيرة على الصحة العامة، لكل من أحاطت به هذه النفايات، خصوصًا فى فصل الصيف، كما أن تراكم كميات كبيرة من القمامة فى الشوارع وأمام البيوت يشكل مظهرًا غير حضارى.
والغريب فى هذا الأمر أيضًا أن يخرج علينا من يتحدث باسم هيئة النظافة والتجميل بتصريحات مستفزة، حين يؤكد مرارًا وتكرارًا أن الهيئة تقوم بواجبها على أكمل وجه، فى نفس الوقت الذى نرى فيه القمامة وقد أصبحت تلالًا كبيرة فى كل مكان، وكأن هؤلاء المسؤولين فى تلك الهيئة يعيشون فى بلد آخر، ولا يعرفون شيئًا سوى إرضاء هذا المحافظ أو ذاك، والتصريح، وهو ما يعبرون عنه بأنه يتم التنسيق بينهم وبين الأحياء بشكل مستمر من أجل التخلص من القمامة، وبالطبع فى هذه الحالة يستطيع السيد المحافظ الخروج من المشكلة وكأنه قد أدى واجبه ولم يتقاعس، متناسيًا أن المواطن لم يعد من السهل الضحك عليه ببضع كلمات منمقة، أو بابتسامة مصنوعة من أجل الأضواء والاستهلاك الإعلامى، فالمواطن أصبح من النضج ما يجعله يعى جيدًا ما عليه من واجبات تجاه الدولة، وأيضًا ما له من حقوق، أبسطها أن يعيش فى بيئة صحية تحترم آدميته.
إننى أطالب الحكومة بضرورة تفعيل تكليفات المهندس إبراهيم محلب للمحافظين، بوضع حد لتلك الأزمة التى تتفاقم يومًا بعد الآخر بسبب تراكم القمامة بشكل يدعو إلى الرثاء، ولنا فى القاهرة والجيزة خير مثال، لذا فلابد من أن تكون هناك وقفة حاسمة وحازمة مع محافظى هاتين المحافظتين، وأن يكون بالفعل معيار بقائهما فى منصبيهما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بخططهما من أجل حل مشكلة تراكم القمامة فى كل مكان.
لست متجنيًا على أحد، ولكن المصلحة العامة تدفعنى إلى الكتابة عن تلك المشكلة، وسأظل أكتب وأكتب عنها إلى أن أجد حلًا حقيقيًا يلمسه الناس، أو أن تتم إقالة هؤلاء المحافظين الذين لا يفعلون شيئًا حقيقيًا للمواطنين، فأنا لا أكلّ ولا أملّ من المطالبة بأن يعيش المواطن حياة كريمة توفرها له الدولة، وهى أبسط حقوقه التى يكفلها له الدستور.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة