الشموس لا تنطفئ ولا ترحل، ولكنها تتفانى فى إشعال ذاتها من أجل الآخرين، أقول هذه الكلمات وأنا أرثى صاحب السمو الملكى الأمير سعود بن فيصل بن عبدالعزيز آل سعود الذى أسميه سيف الدبلوماسية العربية.. فقد كان على مدى أربعين عاماً قضاها وزيراً للخارجية نموذجاً مثالياً لرجل السياسة العربية الذى يسعى لإعلاء الشأن العربى، فعلى مدى هذه السنوات كان الفيصل أميناً فى خدمة دينه ووطنه وأمته وعروبته.. سعود الفيصل كان حجر الزاوية للدبلوماسية العربية. كان يعمل من أجل ترسيخ مبدأ كرامة العرب فى مواجهة أى تدخل غربى، وظهر هذا واضحاً فى أكثر من عمل، أهمها دوره السياسى فى الترويج والتأصيل لمبادرة الملك الراحل عبدالله عام 2002 وكان عبدالله آنذاك ولياً للعهد قبل أن يصبح ملكاً فى أعقاب وفاة الملك فهد، والمبادرة كانت بشأن السلام مع إسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها، مقابل تخليها عن الأراضى العربية المحتلة، وكان ينظر إلى الأمير سعود الفيصل بوصفه واحداً من أنصار الإصلاحات السياسية والاجتماعية فى السعودية، لكن رؤيته هى أن هذه الإصلاحات ينبغى أن تكون تدريجية ومستمدة من الداخل وليست مفروضة من الخارج.. كان حريصاً حتى النفس الأخير أن يكون القرار العربى هو السيد وهو القائد.. لا يقاد ولا ينحنى، كان حريصاً على توسيع دائرة السيادة العربية وتقليص بؤرة فرض الهيمنة العالمية على العرب، ومن هذا المنطلق فإن مصر لن تنسى دور سعود الفيصل التاريخى فى دفاعه عن ثورة 30 يونيو، مؤكداً أن الدبلوماسية السعودية لن تتخلى عن مصر، بل كان له دور مشرف يوم قرر أن يدافع عن ثورتنا المصرية فى عواصم العالم.. ويشرح أبعادها، كان هذا الموقف بمثابة خط دفاع من رجل لا يهمه سوى ترسيخ كلمة الحق فى مواجهة الباطل، وكان هذا الدور الكريم داعماً لمسيرة ثورة الثلاثين من يونيو وراصداً بصدق لأبعاد المؤامرات التى تحاك ضد مصر، وضد أشقائها العرب.
سعود الفيصل لهذه الأسباب كان أحد أهم العلامات المؤثرة فى عالم الدبلوماسية العربية والعالمية، مواقفه العميقة ستبقى شاهدة على تاريخ هذا الرجل، وشخصيته الموسوعية التى انطلقت به من المحلية إلى العالمية.
ولهذا فقد نجح بامتياز فى عمله كوزير للخارجية السعودية نجاحاً جعله من أميز وزراء الخارجية على مستوى العالم.. اليوم وبعد رحيل عميد الدبلوماسيين العرب أرى أنه قد تحول إلى أسطورة خلود علينا نحن العرب أن نباهى بها، وأن نتعلم من خطواته. وكيف أنه لم يكن يكتفى بعلم واحد.. فمن بين ما عرف عنه أنه كان يتقن سبع لغات عالمية، بالإضافة إلى اللغة العربية، ومنها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والإسبانية، بل حرص على أن يجيد اللغة العبرية معطياً لكل العرب، مثلاً وقدوة فى كيفية تكوين ثقافة شاملة، لا تقف عند حدود، بل هى ولادة تنطلق وتنتشر وتؤثر فى العالم أجمع.
إننى اليوم أعزى الشعب السعودى الشقيق فى وفاة الفيصل، وأعزى السمو السفير أحمد قطان، سفير المملكة العربية السعودية فى القاهرة. وهو دبلوماسى قدير مواقفه العربية الشريفة تسبق اسمه. وهو علامة مضيئة فى طريق العلاقات المصرية السعودية، خاصة وسط أكبر موجة شرسة من التحديات التى تتصاعد يوماً بعد يوم، وتحاول عرقلة المسيرة ومعها تنتشر شائعات تحاول الوقيعة بين السعودية ومصر.. أما القطان فهو حائط صد ضد كل هذه المهاترات والمؤامرات.. هذا الرجل جاء فى موعده لتصفية الخلافات ونزع فتيل الفوضى التى تحيط كل الأمور الجادة.. أحمد القطان اليوم وبرغم الأعباء الملقاة على عاتقه، فهو جدير بأن يرسم الصورة المثالية للعلاقات بيننا وبين السعودية قيادة وشعباً.
فهو من طراز فريد فى وطنيته وعمق ثقافته، ويحب مصر من كل قلبه.. ولهذا فهو عنيد فى دفاعه عن مبادئه.. وهو نموذج مثالى للسياسى الإنسان.. أقول له ونحن نودع سمو الأمير سعود الفيصل، إنه ترك لنا ميراثا من الحكمة والأصالة والعروبة.. وسيبقى نابضاً فى ضمير الأجيال لكى يرثوا منه هذا السيل من التاريخ العريق الذى أبداً لا يموت.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة