ومنذ زمن ابن بطوطة وحتى الآن، تتمسك المغرب بطقوس دراويشها، زواياهم، وحضراتهم، وقبورهم التى صارت مزارًا يطلب منه المغاربة النور والبركة.
على بعد 20 كم من مراكش، مدينة المغرب الحمراء، كانت رحلتنا إلى الزاوية المصلوحية الامغارية، زاوية سيدى عبد الله بن حسين الامغارى، كبير المرابطين، الذى توفى عام 976 هجرى.
صاحب الزاوية
ولصاحب الزاوية سيرة وللشيخ قصة، ولكراماته أصل، عبد الله بن الحسين صاحب الزاوية، كان شيخًا من كبار المتصوفة، وقطبًا من اقطابه، حبسه السلطان الغالب لما تولى حكم مراكش، حدد إقامته فى بيته لما رأى وفود كثيرة تجتمع حوله، ثم خاف السلطان لعنات الشيخ، فأطلق سراحه.
استوطن الصوفى بعدها أرض قاحلة اسمها تمصلوحت تبعد 20 كلم من مراكش، وتكاثرت الناس عنده و اجتمعت حوله الكثير من القبائل، و لما توفى السلطان الغالب تولى مولاى أحمد المنصور الذهبى السعدى الذهبى الحكم، ومنح سيدى عبد الله بن الحسين ما بيده من الأراضى و السواقى التى أنشأها.
فى الزاوية
أمام الزاوية تصل سيارتنا، مبانى قديمة بنية من أثر الزمن، فتحات يقف فيها الحمام صباحًا، وتشع منها روائح المسك مساء، الفن الإسلامى والأبواب المزركشة تحتل المشهد كله، رخام أبيض، باب أزرق، ونقوش حمراء، يجلس الدراويش على يمين ويسار الزاوية، تخصص الزاوية غرفة للنساء، تنطلق الموسيقى الصوفية من مسجلات الصوت الحديثة، تغرق فى تأمل الساحة حتى يقرر الأمام موعد الذهاب إلى حلقة الذكر.
حلقة الذكر
تمشى فى سرداب صغير، من غرفة إلى غرفة، تصل إلى حلقة الذكر، تخلع نعليك وأنت فى حضرة دراويش كثر، يرتدون زيهم المغربى التقليدي، جلباب أبيض قصير، وسروال مغربى أسفله، طاقية تتدلى من الجلباب، وأخرى حمراء فوق الرأس، يمشى الدراويش فى طابور منتظم، يدخلون الزاوية، يتطوع أحدهم، يرش على الحضور روائح المسك، تتعطر الجلسة.
يبدأ الدراويش بالموسيقى، يحمل أحدهم الدف، يحمل الأخر رق، يحمل ثالث طبلة، يجلسون فى حلقة، يصطفون على الجانبين، يبدءون فى الذكر، حولهم النخل، خلفهم الشجر، فوقهم سماء الله، تهبط منها أنواره وبركته، ورائهم حجرة الشيخ الكبير سيدى عبد الله بن الحسين، صورته فى منتصف المشهد على الحائط، روحه حاضره بالدعاء له، دراويشه يملئون الدنيا، دراويشه يذكرون الله، طريقته لا تموت بموته، لكل درويش طريقة، لا تنتهى بوفاة صاحبها.
تشتعل الموسيقى، تختلط بلهجة مغربية تشدد القاف، وتعطش الجيم، تسمع منها ذكرنا للصالحين، نحب الصالحين، تهدأ الموسيقى وتسمع الانشاد بوضوح، اللى يبغى يدعمنا ويكون منا يتبع طريق السنة يا بابا، وهكذا عشر مرات، ثم يصمت الدرويش، ويبدأ فى انشاد مقطوعة جديدة، سيدى الرسول أعطانى بإيده وسقاني، أشرب من كأسه وأرويك يا بابا.
يشرب الدرويش من يد الرسول ثم يبدأ فى دعوة الناس للانضمام إليه ينشد "اللى يبغى يترقى ويصير أرقى يدخل هذه الحلقة يا بابا، يدخل هذه الحلقة يا بابا"، ينتقل الدرويش إلى دعوة أخرى، يغرى العامة بالانضمام لعزلته يقول " قل لأحباب الزينة سكننا مدينة، وفضله بان علينا يا بابا، فضله بان علينا يا بابا"، تشتعل الموسيقى مرة أخرى، تختفى اللهجة المغربية خلفها، لا تسمع منها إلا همهمات الدراويش "الله .. الله .. الله .. الله".
ماذا يأكل الدرويش؟
يواصل الدراويش أذكارهم، يأتى القائمون على الزاوية بالطعام، ولكن ماذا يأكل الدرويش؟
الدرويش لا يأكل، الدرويش يرتوى بنور الله فى حضرته، الدرويش لا يلتفت إلى طعام أو شراب طالما انصرف عن أهل الأرض بذكر أهل السماء، الدرويش يطعم زواره، تخضع أعراف الطعام فى الزاوية المغربية إلى قواعد الضيافة المغربية فى الرياض، أو البيت الكبير، تبدأ الضيافة بالماء والخبز والزيتون، ثم يأتى اللحم مغموسًا فى الخضروات، ينتهى اللحم، فيظهر الكسكس المغربى الشهير، محاصراً بالخضروات، يختفى الكسكس، فتأتى الفاكهة، تخرج الفاكهة، يظهر الشاى المغربى فى البراد الفضى التقليدى وهكذا حتى يتم إطعام الضيوف بالكامل، بينما لا يتوقف الدراويش عن الانشاد، ولا ينشغلون بشئ.
تنقطع الكهرباء فيأتى الله بنوره
فى منتصف الطعام، تنقطع الكهرباء فجأة، يضطرب الجو، يواصل الدرويش حلقته وذكره، يخرج أحد القائمين على الحضرة، يأتى بالشموع يوزعها بعدالة على كل الحاضرين، يأخذ كل ضيف شمعته، يشعل الدراويش المصطفون فى حلقتهم، إناء نحاسى بالشموع، تضئ الزاوية بنور الشمع وبالنور الإلهى.
على ضوء الشموع، ينتقل الدراويش إلى مرحلة أخرى فى ليلة الذكر، عاهدناه على الطاعة لا إله إلا الله، يبدأ الدراويش فى هز رؤؤسهم مع أصوات الموسيقى ويرددون لا إله إلا الله، ثم تأتى مرحلة أسماء الله الحسنى، العزيز الله، الغنى الله، الحفيظ الله، الغنى الله، الله، تمتلئ السماء باسم الله، تثقل الرؤوس التى تدور فى ذكر الله ونوره، يصيح درويش "هذه ليلة من ليالى الله يحضر فيها رسول الله".
المنشد يرتل قصائد ابن معتوق
ليلة الذكر أوشكت على الانتهاء، يظهر منشد الليلة القادم من فاس بصوته العذب، ينشد قصيدة لابن معتوق الموسوي، شاعر البصرة البليغ، فيقول
لا برَّ فى الحبِّ يا أهلَ الهوى قسمي وَلاَ وَفَتْ لِلْعُلَى إِنْ خُنْتُكُمْ ذِمَمِي
وإن صبوتُ إلى الأغيارِ بعدكمُ فَلاَ تَرَقَّتْ إِلى هَامَاتِهَا هِمَمِ
ولا تعصفرَ لونى بالهوى كمدا ً إِنْ لَمْ يُوَرِّدْهُ دَمْعِى بَعْدَكُمْ بِدَمِي
وَلاَ رَشَفْتُ الْحُمَيَّا مِنْ مَرَاشِفِهَا إِنْ كَانَ يَصْفُو فُؤَادِى بَعْدَ بُعْدِكُمِ
وَلاَ تَلَذَّذْتُ فِى مُرِّ الْعَذَابِ بِكُمْ إِنْ كَانَ بَعْذُبُ إِلاَّ ذِكْرُكُمْ بِفَمِي
خلعتُ فى حبكم عذرى فألبسني تجرّدى فى هواكم خلعة َ السقمِ
ما صرتُ بالحبِ بينَ الناسِ معرفة ً حتى تنكّرَ فيكم بالضّنى علمي
لَقَدْ قَضَيْتُمْ بِظُلْمِ الْمُسْتَجِيرِ بِكُمْ وَيْلاَهُ مِنْ جَوْرِكُمْ يَا جِيرَة َ الْعَلَمِ.
تخرج من الزاوية، وأنت ممتلئ بحب الله، تسأل نفسك عن الجمال والموسيقى، كيف رأى المتصوفة نور الله فى قرآنه وكونه، ورأى الدواعش الدين موتًا وخرابًا.
صورة للزاوية من الخارج
أشجار الصحراء تنبت فى زاوية الدراويش
الزاوية من الداخل
الزوار يتوافدون على الزاوية فجرًا
درويش يرش المسك على الزوار
فى الطريق لحلقة الذكر
باب قديم لزاوية مراكش
جانب حلقة الدراويش
الدراويش بالزى المغربي
الليلة تبدأ بقرع الطبول
ساعة الحائط المغربية القديمة
كبير الحضرة يصفق فى حب الرسول
حلقة الدراويش تكتمل
الدراويش يواصلون الذكر
صورة للحضرة كاملة
انقطعت الكهرباء فأضاء الدراويش شموعهم
درويش يهز رأسه حبًا
ماذا يأكل الدرويش
ضيوف الحضرة يتناولون العشاء
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة