كان لهذه الدولة الوطنية مسار وطنى حقيقى قبل أن تقطعه تجارب الجمهورية الأولى فى يوليو 1952، التى مثلت قفزة القوات المسلحة برؤية لها سياق تاريخى محدد، مرتبط بوجود مصر بين مطرقة الإنجليز وسندان الملك، وأرادت مصر أن تفلت من ذلك لكن ثورة يوليو بالغت فى احتقار القوى الوطنية واتهمتها بروحها الثورية بالتخاذل، وبأنها كانت مطية للقصر أو السفارة دون أن تستحضر السياق ولغة السياسة التى تبقى هى فن الممكن، والعمل من خلال الأطر القانونية والسياسية حتى لو كان سقفها منخفضا أو أقل من الطموح، كان ليوليو إيقاع ثورى مفهوم لكن هذا الإيقاع لم يتفهم الواقع تفهما واعيا يمكنه من بناء خطة للمستقبل، تتجاوز ما هو ثورى فى الموعد المناسب لتبدأ ما هو بحاجة لإصلاح متدرج وواع، تقلبت الثورة بين ما اعتقدت أنه الأقرب لفلسفتها ومنهجها، فاختارت الاشتراكية ثم انقلبت عليها بعد وفاة ناصر لتتجه غربا، وتؤكد أن %99 من أوراق اللعبة بيد أمريكا، لاشك أن التحدى الذى مثلته إسرائيل لهذه الدولة كان جوهريا فى تشكيل تحولات تلك الدولة وتأخر الحديث عن التحول الديمقراطى، باعتبار أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة التى تعامل معها السادات باعتبارها فعل تحريك للموقف فى اتجاه الاستسلام لإرادة العدو، وليس تحرير سيناء ومعها فلسطين وكل الأراضى العربية المحتلة، بعدما تمددت إسرائيل على أنقاض إرادتنا أبعد كثيرا من احتلالها لأراضينا العربية، لكن السؤال أين ذهب حلم الدولة القوية صاحبة الاستقلال الوطنى بعد معاهدة السلام؟ ماذا أنجز مبارك بعد ثلاثة عقود من السلام مع الكيان الصهيونى والارتماء فى أحضان أمريكا؟ أنجز نمطا شائها لدولة ظلت تتداعى فى الأداء دون أن تتداعى فى الجسد الذى تمدد وترهل حتى جثم على صدور المصريين، كيانا ثقيلا لا يعمل منه سوى أنيابه التى نهشت كل حر وشريف بينما احتضنت كل فاسد وعميل. الدولة هى إطار ابتدعته التجربة البشرية إطارا للتعايش بين المواطنين، وجسدا يتحرك بحلم النهوض السياسى والاقتصادى والاجتماعى، يتوخى إطلاق طاقات الأفراد والمؤسسات فى إطار رؤية قومية وحلم يلهب خيال الجميع ويصبه فى اتجاه المستقبل.
فأين دولة مبارك ذات الثلاثة العقود وما تلاها من ذلك؟
أين هى السلطة التنفيذية التى تعتمد معايير الكفاءة والإنجاز، ويمضى الأداء فيها تحت مظلة راشدة تكافئ المجد وتعاقب المخطئ، وتملك الخيال والقدرة الفنية المناسبة للمهام، وهل ستبقى طريقة اختيار الوزراء والمحافظين فى بلادنا وكل مسؤول وطنى لا تخضع إلا للمعايير المدرسية أو الأكاديمية، التى تزن الشخص بقدر ما يحمل من درجات علمية، قد لا تعكس بالضرورة حضور الخيال اللازم أو حتى الحد الأدنى من الكفاءة، خصوصا إذا استحضرنا ما ذكره الكاتب الساخر أحمد بهجت عن منتج التعليم فى بلادنا، الذى وصف التعليم بأنه لم يعد يعبر إلا عن عدد السنوات التى قضاها الإنسان فى مقاعد الدراسة.
تاهت مفاهيمنا عن المسؤول وهل من المزايا الآن أن هذا الشخص غير سياسى، وماذا جنى علينا التكنوقراط بعد كل تلك السنوات؟ وما هى الحكومة الأفضل التى تأتى من خلال أحزاب منتخبة؟ أم تلك التى يختارها الرئيس بمفرده؟ وما هى معايير محاسبة أى حكومة خصوصا فى ظل غياب برلمان؟ لا ديمقراطية بلا أحزاب تنضج برامج وتقدم حكومات ظل، وتدفع فى اتجاه تداول حقيقى للسلطة.
وما هى طبيعة هذا البرلمان وموقعه فى دولة حديثة، وكيف يستقيم البنيان التشريعى فى ظل قوانين غير دستورية، ومنافسة لا تستوعب كل القوى الاجتماعية فى المجتمع دون إقصاء أو اصطفاء، وما هو النظام الأمثل لقانون انتخاب الذى يجعل الوزن النسبى الأكثر للقائمة أم للفردى؟ أم مناصفة بينهما فى تقديرى، وقد قلت ذلك فى غير موضع أنه فى المراحل الانتقالية التى لم تتعرف بعد الشعوب فيها على اختياراتها، يفضل إمساك العصا من المنتصف، بجعل نصف المقاعد فردية والنصف الآخر للأحزاب دون أى يترك للأحزاب حق المنافسة على المقاعد الفردية، حتى يتعرف المجتمع على اختياراته بالتجربة ويغير تشريعاته بما ينسجم مع نضجه السياسى. أما السلطة القضائية التى تفصل بين السلطتين والتى هى الضمانة الأولى مع الضمانة الثانية وهى استقلال الجامعات وحريتها فى البحث العلمى، فهى بحاجة إلى إصلاح حقيقى حيث يمكن التهاون مع ضعف الأداء أو المهنية فى أى قطاع أو سلطة، إلا فى تلك السلطة التى تقضى بين الناس ويجلس القاضى ليحكم فلا يعقب أحد على أحكامه باعتبار حكمه عنوان الحقيقة. العدل أساس الملك وهو عماد الدولة المدنية الحديثة، وصك دولى يحول دون تجريحها ويمنحها الثقة فى كل المناحى، وهو أمر تراجع فى ظل ما نعيشه من تعقيدات الوضع الداخلى، الذى لن ينجينا منه سوى دولة حقيقية عمادها العدل والحرية وتداول السلطة ومكافحة الفساد دون هوادة، ووضع معايير واضحة لهوية تلك الدولة ومشروعها الذى تعكسه فلسفة الحكم ويبرزه أداء كل مؤسساتها، وهو ما لم نلمح له آثار كافية حتى الآن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة