تُصدر العديد من المنظمات الدولية «سواء تلك التابعة للأمم المتحدة أو تلك التى أصبحت لها نفس القوة والمصداقية» عشرات من التقارير التى تحتوى على مئات الأدلّة والمؤشرات التى تُرتّب بلدان العالم وفقاً لإنجازها فى مجال مُعيّن.. كالتنمية البشرية وحقوق الإنسان والحُريّات والتنافسية.. إلخ. ومع الإقرار بتفاوت المصداقية بين المُنظمّات المُصدرة للتقارير وفقاً لتفاوت الأُسس التى بُنيَت عليها، والتى تعمل على تدقيقها وتحسينها من عام لآخر، إلا أنها تظّل «مؤشرات» يستخدمها العالم للحُكم على مستوى التقدم أو التخلف فى دولة ما، ويبنى عليها كثيراً من قراراته تجاهها.. ويجب علينا أن نعمل جاهدين على تحسين مواقعنا على هذه المؤشرات بتلافى أسباب التأخُر.
مِن أشهرِ هذه المؤشرات مؤشر مُدركات الفساد CPI الذى تُصدره منظمة الشفافية الدولية ومَقرُها برلين.. ورغم اشتهار المؤشر بمؤشر «الفساد» إلا أنه يُرتب الدول من حيث أكثرها شفافيةً ونزاهةً وأقلّها فساداً، بمعنى أنه إذا كانت مصر قد احتلت هذا العام الترتيب 94 من 175 دولة على هذا المؤشر، فلا يعنى ذلك أنها الرابعة والتسعون على الفاسدين وإنما الرابعة والتسعون على الأكثر نزاهةً وشفافيةً.. وتُعطَى كلُ دولة درجةً من مائة تقيس مستوى النزاهة والشفافية بها «حيث 100 تعنى النزاهة المطلقة والصفر يعنى فساداً مُطلقاً»، وقد حصلت مصر هذا العام على 37 درجة من مائة.. وهى درجة ضعيفة بلا شك ولكنها أفضل من العامين السابقين حيث توّقف تقييمنا عند 32 درجة وكان ترتيبتا 118 و114 على التوالى.
تُمثل استبيانات الرأى نسيةً مهمةً فى التقييم «وهذا هو مجال الانتقاد الأكبر له» وتقيس هذه الاستبيانات مدى تعرض المجتمع للرِشا، أو حصول الأشخاص على الخدمات التى يحتاجون إليها مثل الصحة والتعليم والسكن من دون رِشا.. وبالإضافة للاستبيانات يتم جمع معلومات تقرير منظمة الشفافية السنوى من قِبل 10 مؤسسات مالية معتمدة، منها البنك الدولى وصندوق النقد الدولى والبنك الآسيوى والبنك الأفريقى، ومؤسسة برتلسمان والمنتدى الاقتصادى العالمى ومركز التنافسية العالمى ووحدة أبحاث الإيكونمست ومؤسسة فريدوم هاوس.. وبالإضافة للمؤسسات التى تعتمدها منظمة الشفافية الدولية لتقييم مؤشر كل دولة، فإن هناك مجموعةً من الخبراء الذين يقدمون تقارير عن كل دولة. وإذا اعتبرنا النجاح من 50% فإن ثُلثى الدول التى شملها التقرير «بما فيها مصر» راسبة فى النزاهة والشفافية.. ولا يتخطى حاجزَ النجاح عربياً إلا دولتان: الإمارات واحتلت المركز 25 عالمياً بتقييم 70% يليها قطر فى المركز 26 عالمياً بنسبة 69%.. ولكن ثلاث دول عربية لامَسَت نسبة النجاح فحصلت على 49% واحتلت المركز 55 مكرراً على العالم هى المملكة العربية السعودية والبحرين والأردن.. ويسبقنا عربياً أيضاً كل من عُمان «45% بترتيب 64 عالمياً» والكويت «44% وترتيب 67» وتونس «40% وترتيب 79» والمغرب «39% وترتيب 80».
وإذا كانت الدنمارك على رأس المؤشر بتقييم 92% يليها نيوزيلندة 91% ثم فنلندة 89% ثم السويد 87% ثم النرويج 86%، فإن ذيل القائمة «أى الأكثر فساداً» يحتله «للأسف» عدد من الدول العربية الشقيقة المُبتلاة.. فالمركز الأخير مكرر محجوز لكل من الصومال ومعها كوريا الشمالية بنسبة 8%.. تسبقهما السودان فى المركز 173 بنسبة 11%.. وقبلها العراق بتقييم 16% فى المركز 170 من بين 175 دولة.. ويسبقهم كل من سوريا «20% وترتيب 159» واليمن «19% وترتيب 161» وليبيا «18% وترتيب 166».
يُلاحظ أن ازدياد الفساد بدولة ما على هذا المؤشر لا ينعكس بالضرورة على موقعها الاقتصادى لا سيما إذا تغلبّت عناصر القوة عندها على عناصر الضعف.. فتركيا حصلت على 45% فقط فى النزاهة بترتيب 64 على العالم وإيران حصلت فى النزاهة على 27% بترتيب 136 «أى أسوأ منّا» ولكن يظل الفساد ينخر فى عناصر القوة ما لم يتم الالتفات إليه. وكما أن الفساد على مستوى الأشخاص ليس مقترناً بثراء الشخص أو فقره، فكذلك على مستوى الدول.. فدولة فقيرة مثل أوروجواى تحتل مركزاً متقدماً على مؤشر النزاهة رغم فقرها، حيث احتلت المركز 21 عالمياً بتقييم 73% «أوروجواى تلك هى التى يُضربُ برئيسها المثل منذ أن تنازل عن 90% من راتبه وكل مخصصات الرئاسة منذ عدة سنوات مُكتفياً بسيارته الخاصة الصغيرة ومُقيماً فى بيته الريفى».
ويأسف المرءُ عندما يرى أن التعريف الإسلامى للفساد أكثر اتساعاً من تعريف منظمة الشفافية ومع هذا تحتل معظم الدول الإسلامية هذه المواقع المُخزية على مؤشر المنظمة.. فالتعريف الأشهر للفساد عالمياً هو «سوء استغلال الوظيفة العامة من أجل مصالح خاصة».. وهو أضيق من مفهوم الفساد فى الفقه الإسلامى «كما يقول المفكر الراحل د. إبراهيم شحاتة»، ففى هذا الفقه يُعتبرُ الإنسانُ مُستخلَفاً فى الأرض وعليه أن يتجنب إفسادها الذى يحدث بارتكاب المعاصى «كبيرها وصغيرها» أو بإفساد الحرث والنسل «تخريب البيئة» أو باستخدام حق الإنسان «كحق المِلكية وغيره» على نحو لا يُراعى حق الله أو يضّر بمصالح الآخرين.. فإن هو خرج عن ذلك يكون من «المفسدين فى الأرض» الذين يُخلّون بأمانة الاستخلاف التى حملها الإنسان.. فى حين أن الفساد فى مفهوم المنظمة يقتصر على خيانة أمانة المال أو العمل الذى يؤتمن عليه الموظف فى أداء عمله، ويشمل من يخون هذه الأمانة ومن يدفعه إلى ذلك أو يشترك معه.
أليس حريّاً بنا أن نُلبى المتطلبات البسيطة التى يُقاس بناءً عليها مستوى النزاهة «وقلّة الفساد» عالمياً، ليس فقط لأن هذا هو واجبنا تجاه أنفسنا ولكن على الأقل لتحسين صورتنا فى عيون العالم بمؤشره.. ووفقاً لمنظمة الشفافية الدولية فإن مكافحة الفساد تتطلب مجموعةً من الإجراءات، أهمها: إشراف قوى من البرلمان، قضاء قوى ومستقل، هيئة مكافحة فساد قوية ومستقلة، قانون نافذ يمنع تعارض المصالح، تطبيق صارم وفاعل للقانون، تضمين إجراءات مكافحة الفساد فى صنع القرارات العام، التزام المزيد من الشفافية حِيال الإنفاق العام والعقود العامة، توسيع نطاق مساءلة الجهات العامة أمام الشعب، شفافية فى الميزانيات العامة، إعلام مستقل، مجتمع مدنى حيوى، شفافية فى الحصول على المعلومات.
أليس مِن مصلحتنا «بِغّض النظر عن متطلبات المؤشر» أن نُحقق تقدماً على هذه المحاور؟ ثم أليس فى استطاعتنا؟.. أنا على يقين بأننا نستطيع بإذن الله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة