لم يتأخر رد مصر على قيام إرهابيين ينتمون إلى تنظيم داعش بنحر واحد وعشرين شابا مصريا ذهبوا إلى ليبيا وراء أرزاقهم الشحيحة، إذ وجهت طائراتنا فجر أمس الأول الاثنين ضربة جوية مركزة ضد أهداف تابعة لداعش تشمل معسكرات ومناطق تدريب ومخازن وذخائر، وذلك عقب ساعات قليلة من توعد الرئيس عبد الفتاح السيسى فى كلمة له بالقصاص، أو حسبما قال «مصر تحتفظ لنفسها بحق الرد فى الوقت المناسب».
ومن الصعب أن نفهم قضية «داعش» ليبيا بعيدا عن تحليل السياق السياسى والأمنى الذى يحيط بها، ولاسيما أن هذا التنظيم عبارة عن مجموعات إرهابية ومتطرفة محلية أعلنت ولاءها لما تسمى بـ«الدولة الإسلامية فى العراق والشام»، معتبرة إياها تجربة أو نموذجا ملهما، أو أنها تمثل مركزا ما يراه الإرهابيون مقرا للخلافة الإسلامية، وأول نقطة فى هذا السياق أن ليبيا لم تعد دولة موحدة، لا على المستوى النظرى أو العملى، فالخلافات اللفظية الحادة والمريرة التى اندلعت بين المتنافسين السياسيين على مواقع التواصل الاجتماعى عقب سقوط القذافى سرعان ما انتقلت إلى الميدان، واختلط الحابل بالنابل، وفتح باب الحرب على مصراعيه، وتشابكت العوامل التى تدخل منه ولا تخرج، فى اللهاث وراء الثروة والسلطة والنفوذ، وصراع القديم الذى لا يريد أن يموت، مع الجديد الذى لا يجد فرصة كى يولد.
والخلاف والشقاق فى ليبيا غاية فى التعقيد، ومفتوح فى الجبهات كافة. فهناك صراع بين قوى البيروقراطية والمؤسسة الهشة القديمة من ناحية، وبين المؤسسات الجديدة التى ترتبت على ثورة 17 فبراير من ناحية أخرى، وهناك صراع بين الجيش الضعيف والمليشيات العديدة والمتوحشة، وهى مسألة لم ينهها ضم المليشيات إلى قوات الجيش المكونة من 100 ألف عنصر، والأجهزة الأمنية المكونة من ضعف هذا العدد، فعلى رغم أن عناصرها تتلقى رواتب منتظمة من الحكومة فإنها تُبقى على ولائها لمليشياتها الأصلية، وبالتالى تصبح قوات الجيش والأمن، التى يجب أن تكون الجهة الوحيدة التى تحتكر السلاح فى البلاد، مفككة من الناحية الواقعية، ويضرب صراع ضارٍ فى جنباتها بلا هوادة، وتدخل على الخط الصراعات القبلية التقليدية ومعها التنافس الجهوى فى بلد كان مقسماً من قبل إلى ثلاث ولايات. ويتداخل القتال من أجل حيازة الثروة النفطية مع ذلك الذى يرمى إلى تحصيل النفوذ وسط نعرة قبلية مستعرة.
وهناك صراع أشد وطأة بين حاملى الأفكار الدينية المتطرفة التى لا تؤمن بـ«الدولة الوطنية» وتراها «رجسًا من عمل الشيطان» أو «بدعة» وبين من يؤمنون بأن الدولة هى الكيان الاجتماعى والسياسى الجدير بالولاء، وبينما لا تريد قوى ثورية وشريحة اجتماعية كانت مغبونة فى حكم القذافى لرموز نظامه أن يعودوا إلى الواجهة ويطلقون عليهم اسم «الأزلام» و«الطحالب» يصارع هؤلاء من أجل الحفاظ على مكتسباتهم بمن فيهم عسكريون وساسة وأفراد أمن ورجال مال وأعمال.
وفى البداية حين لم تتمكن أى من القوتين من هزيمة الأخرى استعانت بقوة خارجية بغية تحقيق هذا الهدف، فاستعان القذافى بمرتزقة من بعض البلدان الأفريقية، واستعانت القوى الاحتجاجية بقوات حلف «الناتو»، وهذا التدخل الخارجى فتح نافذة واسعة أمام صراعات إقليمية ودولية على الساحة الليبية، الأمر الذى ألقى بظلال كثيفة على إمكانية فض هذه التشابكات الحادة تباعًا، أو إنهاك الأطراف إلى درجة اقتناعها جميعًا بأنه لا مناص من التفاهم. فالأموال والأسلحة التى تتدفق إلى الأراضى الليبية، وتذهب إلى مليشيات بعينها تطيل أمد الصراع وتؤججه، وتضعف من فرص كل من يسعى إلى حلول سلمية للمعضلة الليبية.
واستمر هذا المسار فى الاتكاء على الخارج، فأخذت بعض الأطراف الداخلية تعتمد على أطراف خارجية فى تمويلها وتسليحها وتغذيتها بالأفكار والمعلومات وتوجيهها فى الساحة الداخلية وتوظيفها كورقة فى صراع إقليمى أشمل، يراد من خلاله لليبيا أن تكون نقطة انطلاق لخلق توتر دائم لكل البلدان العربية المجاورة لها، وخصوصًا مصر والجزائر. وهذا الوضع يدفع الدول المستهدفة بالقطع إلى أن تبادر إلى الدفاع عن مصالحها من الأراضى الليبية، عبر تقوية نفوذ ومكانة القوة الساعية إلى لملمة أشتات الدولة، وبناء جسور قوية معها، وتقصير أمد التطاحن الداخلى، فإن تعذر عليها هذا المسار والخيار ستعمل جاهدة على خلق ولاءات داخلية مضادة للتنظيمات والجماعات التى تستهدفها.
وما كان يمكن لكل هذه الألوان من الصراعات أن تظهر على هذا النحو المروع لو أن مرحلة ما قبل الثورة قد رزقت بنظام حكم بذل جهدًا معقولاً فى سبيل الدمج الطوعى والانصهار الطبيعى لأشتات الدولة الليبية، عبر إجراءات للتحديث السياسى والاجتماعى تقلل من غلواء النعرة القبلية، وتخلق على الأرض شريحة عريضة من المنحازين للقيم الجديدة والاعتدال الدينى، وتبنى مؤسسات سياسية قوية وراسخة تحمل الدولة نفسها بعد سقوط نظام الحكم. ولكن القذافى دمج الدولة فى النظام تمامًا واختزل النظام فى شخصه، فكان لسان حاله يقول: «ليبيا من قبلى لم تكن شيئا يذكر، أنا ليبيا وليبيا أنا»، بل إنه قد قال هذا بالفعل فى إحدى خطبه خلال الثورة حين صرخ غاضبا: «قبلى كان العالم لا يعرف ليبيا، وحين يذكر أحدهم اسمها أمام أى أجنبى، يسأله: أتقصد لبنان أم ليبيريا؟ أما بعدى فما إن يقول أحد منكم أنا من ليبيا حتى يرد عليه من يسمعه: آه ليبيا القذافى، أنا أعرفه».
أمام هذا التعقيد أو التشابك لا تصلح سياسة الحل الجزئى للمعضلة الليبية من خلال مساندة طرف أو جماعة أو مجموعة أو قوة وترك القوى الأخرى، أو من خلال الاعتقاد بأن الحل سيكون مسلحًا بالضرورة. وهنا على القوى الليبية نفسها أن تختار الآن بين الدولة واللادولة، فإن كان الانحياز للدولة فهذا يفرض على كل القوى السياسية والاجتماعية التى تناصر هذا المسار أن تتوحد فى وجه مليشيات تكفيرية وإرهابية لا تقتنع بالدولة وتريد أن تحول البلاد إلى مجموعة من الكيانات الصغيرة التى تفرض فيها ما تتوهم أنه صحيح الدين وهو فى الحقيقة مجرد ستار هش لمآرب أخرى، على رأسها تحصيل المال والنفوذ، وعلى الدول الإقليمية، سواء المجاورة لليبيا أو غيرها من البلدان العربية والأفريقية أن تقف وراء الفريق المنحاز للدولة، وتقنع جماعاته وتجمعاته وأطرافه بأن أحدًا لن يكون بوسعه أن يسيطر ويحكم وحده وإنما يريد الجميع إعلاء مبدأ التساند والتآزر، وتقوم هذه الدولة بإسناد هذا الخيار، ثم دعوة العالم كله إلى فعل هذا، ولاسيما أن القوى الدولية أصبحت معنية بالبحث عن طريق لخروج ليبيا، الدولة النفطية المهمة، من مأزقها.
ومن هنا تأتى أهمية الدعوة إلى مؤتمر دولى حول ليبيا، يجب أن تحضره الأطراف المنحازة للدولة الليبية فى هذه اللحظة بمختلف انتماءاتها الأيديولوجية، وتتفق على خطة متكاملة تطبقها تباعًا فى المستقبل من أجل تحقيق مطالب الثورة، أو نقل ليبيا إلى مجتمع ودولة جديدة يكون على القوى القديمة أن تندمج فيها وفق المناخ والشروط التى وضعتها الثورة وليس غيرها، وبهذا يتم تجنب تغول القوى الدينية المتطرفة الرافضة للدولة والتى تزعم أنها صاحبة الثورة، وتتم محاصرتها تباعًا حتى تضع السلاح، بعد أن تقطع ليبيا شوطًا بمساعدة إقليمية ودولية فى بناء جيشها الوطنى ومؤسساتها السياسية والأمنية والاجتماعية، وهذا هو حائط الصد الحقيقى أمام داعش ومن على شاكلتها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة