نتج عن مراعاة أصول التصرفات والعقود الثلاثة، وهى تواجد أسبابها وتحقق شروطها وانتفاء موانعها، اختلاف فقهى قديم فى حكم وقوع الطلاق فى مسائل عديدة اخترنا منها إحدى عشرة مسألة تفتح على الفقهاء المعاصرين باب التخريج عليها فى الحكم بعدم احتساب الطلاق الشفوى للمتزوجين بوثيقة رسمية. وقد تكلمنا عن ست مسائل منها وهى وقوع الطلاق بغير صيغة التنجيز، والطلاق بغير نيته، والطلاق بالتوكيل أو بالتفويض، وطلاق الفضولى، والطلاق بغير إشهاد، وطلاق الغضبان. ونتابع فيما يلى ما تيسر من تلك المسائل.
المسألة السابعة: طلاق المكره
الإكراه فى اللغة هو القهر، ويطلق على حمل إنسان على فعل شىء بغير رضاه قسرًا. تقول: أكرهت فلانًا إكراهًا. أى حملته على أمر يكرهه. والإكراه فى اصطلاح الفقهاء هو فعل بغير حق يفعله الإنسان بغيره فيزول به رضاه أو يفسد به اختياره. وإنما اشترط فى فعل الإكراه أن يكون بغير حق لتمكين القاضى من إنفاذ الطلاق فى حال تعسف الزوج، إذ لا سبيل لرفع الظلم ولإقامة العدل إلا بذلك.
ولا يأبى الفقه من حيث المبدأ تقسيم المذهب الحنفى هذا الإكراه إلى قسمين: (1) إكراه ملجئ، وهو الإكراه الكامل الذى يعدم الرضا بالكلية ويوجب الإلجاء، ويكون بما يخاف على نفسه أو عضوه كالإكراه بالقتل أو بالقطع. (2) إكراه غير ملجئ، وهو الإكراه القاصر الذى يعدم الرضا ولا يوجب الإلجاء، ويكون بما لا يخاف على نفسه ولا على تلف عضو من أعضائه كالإكراه بالضرب الشديد أو بالحبس. ويدخل فى حكمه أن تطلب الزوجة طلاقها وهى فى حال ثورة الغضب بما يخشى عليها من أن تضر نفسها، فيطلقها لإطفاء ثورتها.
ويرى المذهب الحنفى أن الإكراه إذا كان ملجئًا فإنه يفسد الاختيار ويبطل العقود، وإذا كان الإكراه غير ملجئ فإنه لا يفسد الاختيار، لأنهم يفرقون بين الرضا وبين الاختيار. ويترتب على ذلك التفريق فى العقود بين ما يقبل منها الفسخ كالبيع والإجارة والهبة والإقرار فهذه لا تصح مع الإكراه ويكون للمكره حق الإمضاء أو الفسخ بعد زوال حالة الإكراه، وبين ما لا يقبل الفسخ من العقود كالزواج والطلاق والخلع فهذه تصح مع الإكراه وتلزم، لأنه يستوى فيها الجد والهزل. أما جمهور الفقهاء فيرى أن فساد الاختيار يرجع إلى عدم وجود الرضا وتمامه بما يبطل العقد، لأنهم لا يفرقون بين الرضا وبين الاختيار.
وهل يتحقق الإكراه بالتوعد أم بالمباشرة؟ خلاف بين الفقهاء على ثلاثة مذاهب. (1) يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية للحنابلة أن التوعد بالمكروه يكون إكراهًا إذا غلب على ظنه أنه يفعل، احتياطًا لحفظ الحقوق. (2) ويرى الحنابلة فى رواية ثانية أن التوعد بالمكروه ليس إكراهًا إلا أن يباشر به، لإثبات الجدية. (3) ويرى الحنابلة فى رواية ثالثة أن التوعد بالمكروه يختلف، فإن كان بالقتل أو بالقطع فهو إكراه، وإن كان بغير ذلك فلا يكون إكراهًا إلا بالمباشرة، لعدم تدارك ما يفوت بالقتل أو بالقطع.
وهل يشترط فى التهديد بالمكروه أن يكون عاجلًا حتى تتحقق صفة الإكراه، أم يتحقق التهديد بالمكروه فى المستقبل؟ خلاف بين الفقهاء على مذهبين. (1) يرى جمهور الفقهاء أن التهديد بالمكروه لا يكون إكراهًا إلا إذا كان عاجلًا، لأن التهديد بالمكروه فى المستقبل قد لا يتحقق إما بالتراجع أو بالاحتماء بالسلطان. (2) ويرى المالكية أنه لا يشترط فى التهديد بالمكروه أن يكون عاجلًا حتى تتحقق صفة الإكراه، وإنما الشرط لتحقق صفة الإكراه أن يكون الخوف من حدوث المكروه حالًا، لأن هذا هو ما يؤثر على الإرادة.
واختلف الفقهاء فى حكم وقوع الطلاق فى حال الإكراه لعدة أسباب منها: (1) تعارض مصلحة استقرار الأوضاع فى عقود الزواج والطلاق والخلع التى لا تحتمل التردد والتى تستوجب الحكم بصحة تلك العقود فى الجد والهزل، وبين مصلحة تعظيم الإرادة وتحقق الرضا التى تستوجب عدم اعتبار العقد الخالى عن إرادة عاقده ورضاه. (2) اختلاف الفقهاء فى حجية الأحاديث الواردة بسند ضعيف والتى تفيد صحة وقوع الطلاق حال الإكراه، ومن ذلك ما أورده ابن نجيم الحنفى (ت970هـ) فى «البحر الرائق»، وأورده ابن حزم (ت456هـ) فى «المحلى» ووصف سنده بأنه فى غاية السقوط عن صفوان بن عمرو الأصم الطائى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رجلًا جلست امرأته على صدره وجعلت السكين على حلقه، وقالت له: طلقنى أو لأذبحنك؟ فناشدها الله تعالى، فأبت فطلقها ثلاثًا. فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: «لا قيلولة فى الطلاق». وفى رواية ثانية عند ابن حزم فى «المحلى» من طريق سعيد بن منصور عن صفوان بن عمرو بن الأصم الطائى قال: إن رجلًا جلست امرأته على صدره فوضعت السكين على فؤاده وهى تقول: لتطلقنى أو لأقتلنك؟ فطلقها، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «لا قيلولة فى الطلاق». وما أخرجه الترمذى بسند ضعيف جدا، كما ذكر الألبانى، والصحيح أنه موقوف على أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله»، وأخرجه الطحاوى من أقوال الإمام على بلفظ: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه»، كما أخرجه عن رجاء بن حيوه أنه قال: قرأ علينا عبدالملك بن مروان كتابًا من معاوية فيه السنن أن «كل طلاق جائز إلا طلاق المجنون». (3) اختلاف الفقهاء فى صحة قياس الطلاق فى حال الإكراه على الطلاق فى حال الهزل الذى ورد فى شأنه ما أخرجه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائى بسند فيه مقال وصححه الحاكم وحسنه الألبانى. ونقل الزيلعى فى «نصب الراية» عن ابن القطان أنه معل بجهالة أحد رواته، عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة».
ويمكن إجمال أقوال الفقهاء فى حكم الطلاق حال الإكراه بغير حق فى المذهبين الآتيين:
المذهب الأول: يرى أن الطلاق الواقع بالإكراه بدون حق باطل، فهو والعدم سواء. وهذا مذهب جمهور الفقهاء قال به المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية والإمامية فى الجملة. وحجتهم: (1) ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا طلاق ولا عتاق فى إغلاق». قال الإمام الباجى المالكى (ت474هـ) فى «المنتقى»، والإمام البغوى الشافعى (ت516هـ) فى «شرح السنة»، والإمام ابن الجوزى الحنبلى (ت597هـ) فى «غريب الحديث»: الإغلاق هو الإكراه كأنه يغلق عليه الباب ويحبس حتى يطلق. (2) أن الرضا أساس العقود، فلا عبارة لعديم الإرادة أو ناقصها، لما أخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبى عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». (3) أن الواقع فى حال إكراه منعدم الإرادة والقصد فكان حكمه كالمجنون المرفوع عنه القلم فيما أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة إلا الترمذى وصححه الحاكم عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق».
المذهب الثانى: يرى أن الطلاق الواقع بالإكراه بدون حق صحيح ونافذ. وهذا مذهب الحنفية وهو قول الزهرى وقتادة وسعيد بن جبير، وروى عن عمر وعلى بن أبى طالب. وحجتهم: (1) أن النبى صلى الله عليه وسلم نفى التعليلات من القيل والقال فى الطلاق لاستقرار أوضاعه بحسب ظاهره وعدم احتماله الفسخ كعقد الزواج، ومن ذلك ما ذكره فقهاء الحنفية وأنكره ابن حزم بشدة عن صفوان بن عمرو الأصم الطائى: أن رجلًا هددته امرأته بالسكين أن يطلقها فطلقها ثلاثًا، ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: «لا قيلولة فى الطلاق». قال النسفى فى «طلبة الطلبة»: أى لا رجوع ولا فسخ. (2) أن النبى صلى الله عليه وسلم صحح وقوع طلاق الهازل وكل طلاق إلا للمغلوب على عقله، لخطورة الطلاق. مما يستوجب تقديم مصلحة استقرار وضعه الظاهرى على أى مصلحة أخرى ولو كانت الرضائية فى العقود، فقد أخرج الترمذى بسند ضعيف جدا والصحيح وقفه على أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله»، وأخرج أصحاب السنن الأربعة إلا النسائى بسند فيه مقال عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة».
المسألة الثامنة: طلاق السكران. وللحديث بقية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة