تخيلت وأنا أجلس فى الصفوف الأولى فى الحفل الذى أقامه الرئيس عبدالفتاح السيسى تكريما للرئيس الروسى بوتين.. أن المعزول مرسى - والعياذ بالله - ما زال يحكم.. كانت القاعة المزدحمة بكبار رجال الدولة ونجوم المجتمع، سوف يحل محلها أهله وعشيرته من القتلة والمجرمين بأفكارهم الظلامية وعقولهم الرجعية.. وتخيلت أنه سيقدم فيلما تسجيليا عن عصابة الإرهابيين بدلا من «بحيرة البجعة» رائعة تشيكوفسكى التى تضاف إلى تراثه الموسيقى فى الجمال الناعم، والتى استحوذت تصفيق الحاضرين لرشاقة فنانيها وحلاوة الموسيقى التى ملأت المكان بهجة وفرحة على خطوات الراقصة الروسية الكبيرة التى تبوح خفة ورشاقة. الحمد لله أن الغمة زالت والسحابة السوداء انقشعت واستقبلت مصر الرئيس الروسى بكل الحفاوة والترحاب، ولسان حال الجماهير التى احتشدت بالشوارع تحية له تقول: «والله زمان يا مصر».. كانت ليلة رائعة بكل المقاييس استعرضت فيها مصر قوتها الناعمة وتراثها الحضارى الرائع وعلت الابتسامة وجه الرئيس وضيفه الكريم أثناء عرض أحد فصول «أوبرا عايدة» للموسيقار الإيطالى فيردى، التى كانت عروس افتتاح قناة السويس منذ قرابة قرن ونصف القرن، وتشاء الأقدار أن يتكرر الحدث العظيم مرة ثانية بشق قناة السويس الجديدة التى نحتفل بافتتاحها بعد شهور قليلة.
لجأ الرئيس الروسى إلى مصر فاتحا صفحة جديد من العلاقات التاريخية بين البلدين، عندما وقف السوفيت بجوار مصر وقرروا إمدادها بالسلاح بالصفقة التشيكية الشهيرة لكسر احتكار الغرب للتسليح، وكانت ثمرة التعاون فى تمويل مشروع السد العالى وتغيير مجرى النيل فى حفل عالمى كبير حضره الزعيمان جمال عبدالناصر وخورشوف، وبادر السوفيت بمساعدة مصر فى إقامة هذا العمل الهندسى الجبار الذى غير وجه الحياة فى وادى النيل، ووصلت العلاقات ذروتها بعد حرب 1956 عندما تدخلوا لدحر العدوان الثلاثى وتوجيه إنذار للدول الغازية بالانسحاب فورا، وإلا أصبحت المنطقة مهددة بحرب عالمية ثالثة.
الحمد لله أن المعزول لا يحكم، وأنه وجماعته ذهبوا فى مهب الريح وإلا كانت مصر ستواجه مصيرا مظلما، ولا أكشف سرا إذا قلت إن المعزول حفيت أقدامه لمقابلة الرئيس بوتين قبل عزله، لم يقابله من أجل السلاح ولا من أجل استيراد القمح، ولا من أجل تحقيق التوازن فى العلاقات المختلة بسبب هيمنة القطب الواحد على أقدار ومقدرات المنطقة.. بل قابله ليغريه بـ«صفقة الشيطان» وعرض عليه ببجاحة أن يستضيف الإرهابيين فى الشيشان فى جزيرة سيناء مثلما استضاف إرهابى القاعدة قائلاً: أريد أن أخفف الضغط عن روسيا باستضافة مقاتلى الشيشان مثلما فعلت مع أمريكا.. وبالطبع ثمن الصفقة هو أن يعترف الروس بإماراة الإخوان التى كانوا يخططون لإعلانها فى مصر. محطات مهمة فى رحلة العلاقات المصرية السوفيتية دشنها عبدالناصر، وقلل من شأنها السادات الذى أراد أن تكون %99 من أوراق اللعبة فى يد أمريكا، وبالفعل تغيرت الموازين، وأصبح السوفيت فى المنطقة غير مرغوب فيهم، وتراجعت معدلات التعاون الاقتصادى إلى أدناها، وأصبحت أمريكا هى الحليف الاستراتيجى والسوفيت هم الحليف التاريخى الذى مضى عصره، ولم تتغير تلك الاستراتيجية فى فترة حكم مبارك، وإن حاول أن يبذل جهده لتحقيق نوع من التوازن الذى ظل مختلا.
بمجىء السيسى إلى الحكم بدأت صفحة جديدة لغلق ملفات النار المفتوحة على دول المنطقة، بعد أن وصل العبث الأمريكى مداه فى اليمن وليبيا وسوريا والعراق تحت وهم الفوضى الخلاقة التى فتحت بوابة جهنم على دول وشعوب المنطقة وأدخلتها فى حروب دموية ومؤامرات بالتقسيم.. غياب الدور الروسى عن المنطقة أدى إلى خلل كبير فى موازين القوى، ورغم ذلك حاول بوتين منذ مجيئه للحكم أن يكون للروس دور مساند وفعال لتحقيق قدر من التوازن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة