لا ألوهية لبشر أو أى كائن كان، فالذات الإلهية من السمو بحيث لا تقاس ولا تخضع للجدل، ومن القدرة اللامتناهية بمكان ألا تخضع للسؤال، لكن سائر الخلق يخضعون له، وذلك جانب من عظمة الله الواحد القهار. ومن هذا المنطلق لا قداسة لبشر، بل كل الخلق يسألون أن كانوا يجيبون، وقد يؤخذ منهم ويرد عليهم، ومنهم من به حق، وليس هو الحق، وبهم من يحمل شرًا ولا يكون هو الشر إلا بأمر وإقرار من الخالق الأوحد، ولرب العزة كل القدرة، والمخالف لهذا المنطق يضع نفسه تحت طائلة التشكيك فى عقيدته وتوحيده وتقديسه لرب واحد.
سبق أن أشار الكاتب فى مقالات سابقة، وفى معرض حديثه من خلال برنامجه على فضائية «أون تى فى» أنه لا عصمة لبشر، وأن كل بنى آدم خطاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا تجدر الملاحظة أن الرسول الكريم لم يعفِ حتى نفسه من الخطأ، وإن قال فى حديث آخر: أدبنى ربى فأحسن تأديبى، فبقدر ما رفع عن نفسه العصمة، بقدر ما سنّ سنة حسنة لتتبع من بعده، فهو المؤدب من قِبل رب العزة.. وهو حديث أنكر ابن تيمية صحته فى موقف لافت لما ينكره الرجل، وما يثبته من أحاديث وروايات عن المصطفى بشكل يخالف فلسفة صحيح الإسلام، وهذا لا يعنى التشكيك فى إسلام ابن تيمية أو إيمانه، إنما طرح ما جاء به من فتاوى وشروح على مائدة الفحص والنقاش.
فهو الذى ولد فى عهد الحروب الضروس، وغزو التتار لبلاد العرب، وما تم فتحه على يد المسلمين، فتحكمه عن دون إرادة كاملة سيكولوجيا المواطن المهدد فى بيته وماله ودينه، وظنه بأنه المحارَب من قبائل وحشية لا تعرف التوحيد، مما قد يشكل لديه آلية دفاعية تلقائية دون وعى كامل، وهو البادى بجلاء فى فتاواه الخاصة بالجهاد، وتقسيم العالم لديار إسلام وديار كفر، بل إن المرحلة الزمنية نفسها كفيلة بأن تخلق منه بطلًا قوميًا يناضل ضد الدموية التترية، بل تخلق رمزًا مدافعًا عن الإسلام، وهو ما لا ينكر على الرجل، فهو ما لم ينفه المؤرخون على اختلافهم، ولا ندخل فى صدق نواياه، فلقبه أتباعه بـ«شيخ الإسلام» نظرًا لخطابه الممتلئ عنفًا يليق بطبيعة الفورة الجماهيرية حينها، ولا يليق بالفضائل البشرية فى عمومها.
على صعيد آخر، عاصر ابن تيمية مرحلة محاكم التفتيش الأسقفية فى أوروبا، والتى اتهمت كل من خالف الكنيسة فى روما بالهرطقة، وبخلفية دينية تدعى محاربة البدع، فشنت هجومًا داميًا على مجموعات كبيرة من الحركات الشعبية التى انتشرت فى أوروبا، والتى كانت تعتبرها الكنيسة بدعة أو ردة عن المسيحية، خاصة الكاثارية والوالدنسية فى جنوب فرنسا وشمال إيطاليا، فتجد أن أفكاره عما أطلق عليه الردة أشبه بما أسماه بعض من رجال الدين المسيحى فى عهده بالهرطقة، بل تكاد تكون وسائل العقاب والقتل واحدة، فقد أنشئت هذه المحاكم بشكل منظم فى أوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع وذلك عام 1233، وكان هدفها محاربة الهرطقة فى كل أنحاء العالم المسيحى، والمقصود بالهرطقة هنا أى انحراف ولو بسيط عن العقائد المسيحية الرسمية «لاحظ كلمة رسمية»، وقد كلف بها رجال الدين فى مختلف المحافظات والأمصار، فكل واحد منهم كان مسؤولاً عن ملاحقة المشبوهين فى إيبارشيته، وكانت الناس تساق سوقًا إلى محكمة التفتيش عن طريق الشبهة فقط، أو عن طريق وشاية أحد الجيران.. كانوا يعرضون المشبوه به للاستجواب حتى يعترف بذنبه، فإذا لم يعترف انتقلوا إلى مرحلة أعلى فهددوه بالتعذيب- وهو ما تفعله داعش وغيرها من حركات متشددة كما سبق أن حدث فى مصر منذ أكثر من عامين، وفى بعض من القرى السورية.. إلخ فى استناد لضعاف الأحاديث ومختلق الروايات- وعندئذ كان الكثيرون ينهارون ويعترفون بذنوبهم ويطلبون التوبة، وأحيانًا كانت تعطى لهم ويبرأون، لكن إذا شكّوا بأن توبتهم ليست صادقة عرضوهم للتعذيب الجسدى حتى ينهاروا كليًا، وإذا أصرّ المذنب على أفكاره ورفض التراجع عنها فإنهم يشعلون الخشب والنار ويرمونه فى المحرقة، وهو ما يتفق مع شروح ابن تيمية حول قتل من يراه مرتدًا دون إعطائه حق الاستتابة أن كان مجاهرًا، بل وتعذيبه على الشبهة، ثم ذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لجواز «المثلة قصاصًا»، ولو تذكر القارئ أنه فى الأسبوع الأخير من مارس 2010 عقد مؤتمر لعلماء مسلمين فى مدينة ماردين، بجنوب شرق تركيا، وأجمع الحضور أن الفتوى التى كثيرًا ما يستند إليها الإسلاميون المتشددون لتبرير القتل لا يمكن أن تطبق فى عالم يحترم حرية الاعتقاد والحقوق المدنية، وأنه لا يجوز لأى فرد مسلم أو جماعة مسلمة أن تعلن الحرب، أو تنخرط فى الجهاد من تلقاء نفسها، بل رفض العلماء الحضور، ومنهم الحبيب الجفرى، تطبيق فتاوى ابن تيمية لأنها لا تتفق مع العصر، بل هى محكومة بفكره الخاص ومرحلته التاريخية.
من هنا تجد أن ابن تيمية هو ابن لمرحلة تاريخية امتلأت فى شقيها، الشرقى والغربى، بتطرف فكرى لم يأت مثيلًا له فى حقب تاريخية تالية جرفت ابن آدم «ابن تيمية» إلى تشدد، وتتقاذفنى بين دور أشبه بالنشاط السياسى المتحمس لوطنه ودولته، وبين الداعية أو الفقيه الغيور على دينه، فتاه الرجل غير المعصوم متقاذفًا بين أمواج لم ينقذه منها قراءته لفلسفات أفلاطون وأرسطو التى فحصها فى شبابه، وكتب فيها ناقدًا فتحول من اعتدال مُبشِر إلى إجحافٍ مُكفِر.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة