حينما صرخ أفلاطون فى أحد تلاميذه (تكلم حتى أراك) لم يكن تلميذه تائها فى رحلة مدرسية للأنفوشى أو رأس البر، ولا كان أفلاطون أعمى أو مصابا بالعمش، بل لأن تلميذه كان يجلس صامتًا مثل (الدكة) التى يجلس عليها.
مجرد جسد إنسانى لن تفهم من هو وكيف يفكر وبماذا يؤمن مادام هو ساكتا لا يتكلم، فالإنسان لا يُعرف إلا من كلامه وآرائه. فكأنه خفى لا يرى لأنه صامت، إلا أن الأيام الآن تعلمنى عكس ذلك، فالصمت أصبح نعمة للنابغين والتافهين على السواء، فالنابغون مهما تكلموا بالحكمة فلن يفهمهم أحد والتافهون مهما تكلموا (بالهجص) فلن يلومهم أحد.. وما بين ذكاء الحكمة وغباء (الهجص) مساحات عريضة من البشر الذين يفضل صمتهم أيضا لأن كلامهم مع إيقاف التنفيذ.
فعلى مستوى الأصدقاء والمعارف لا يخلو لقاء بالمصادفة من اتفاق على لقاء دائم (لازم نتقابل ونقعد زى زمان.. أنت عارف معزتك فى قلبى شوف مواعيدك وكلمنى) فيرد الآخر (ربنا يديم المعروف أنت أخويا وحبيبى.. هستنا تليفونك) وانتهت المصادفة بدون اتفاق واضح على من سيكلم الآخر.
وقد يعاد نفس الحوار فى كل لقاء مفاجئ فى زفاف أو عزاء أو زحمة مرور، فنكتشف مع الأيام أنها معزة مشروطة ووعود مغلوطة مجرد كلمات لا نشعر بها واعتدنا قولها، لتظل معزتى ومعزتك، كالمعزة التى لا تخرج من باب الدار إلا للبحث عن البرسيم.
أما على المستوى الإعلامى فنكتشف كل يوم أن صمت الأغلبية أفضل بكثير، فما بين مفكرين يفجرون قضايا انقسامية بلا داعٍ وكأن المجتمع ناقص خلافات وقضايا هامشية، وبين مذيعين يحتفلون بالفضائح وكأنها اكتشافات علمية أو اختراعات وطنية حتى فقد الناس احترامهم للجميع وظن الشباب أنهم يعيشون فى مستنقع كبير وكئيب، وصحفيين لا يجيدون غير الشتائم ووصف الآخرين بالعملاء والخونة والحمقى والمأجورين، كل هؤلاء صمتهم كما قلنا أفضل بكثير.
أما على المستوى السياسى فأكثر الوزراء والمسؤولين لا يستحقون نعمة الكلام من الأصل.
فكل كلامهم (لت وعجن) بلا حساب أو رقيب، كل يوم تحدث كارثة فى إحدى المحافظات أو فى مسؤولية إحدى الوزارات ليخرج المسؤولون يقسمون بالتطوير والتعديل والتحسين ،والكل يعرف أنها مجرد كلمات لتهدئة الأجواء، وأن كل شىء سيبقى على حاله، وأننا اعتدنا على التقصير وحدوث الكوارث، والمسؤولون اعتادوا على إطلاق الوعود بلا تنفيذ.
وننتظر الآن مرحلة جديدة من الصخب الكلامى فى جلسات مجلس الشعب.
ونتمنى أن يكون الكلام هناك قابلا للتنفيذ وليس مجرد وعود بلا التزام.
وأن يقدر كل نائب دوره فى مواجهة التقصير أو الحد من الفساد لأننا لم نعد نمتلك رفاهية تضييع الوقت فى حوارات وتصريحات وصور وفضائيات.
بالتأكيد سنجد الكثير من النواب متفرغين لهذا التخصص فنرى أحدهم يتكلم طوال الليل فى برامج التوك شو ونجده نائما صباحا فى الجلسات.
لذلك أخطأ أفلاطون كثيرا حينما قال «تكلم حتى أراك»، فالأفضل «اسكت حتى أنساك» لأن الناس فيها ما يكفيها.. إلا أن المتكلمين لا يفهمون.
لن ينصلح حالنا إلا حينما يقل كلامنا ويزيد إنتاجنا.
ولكن للأسف أغلبنا الآن يظن أن الكلام من أهم أعماله ،خاصة أن الكلام فى مصر بلا جمارك ،فلا المخادع يلام ،ولا هناك من يرد على المسؤولين ويقول لهم: (شبعنا كلام).
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة