ويأتى الروائى الفرنسى ماتياس إينار روايته "بوصلة" التى فاز عنها بجائزة "غونكور" الأدبية المرموقة مؤخراً، ليصلح شيئا من صورة الشرق التى اهتزت بسبب عقود من الكتابات المستسلمة للتعليب وللعب على غرائز القارئ الغربى، فقد انتظرنا الأدب الفرنسى طويلا لنجد كاتبا فرنسيا من الداخل، يكتب عن الشرق بنظرة مغايرة، وكانت ميول ونظرة إينار الإيجابية نحو الشرق سببا فى جعل فوزة بالجائزة مفاجئاً للكثيرين.
واستعان الروائى الفرنسى فى روايته بموسيقى نمساوى هو فرانز ريت، الذى بات يعد أيامه الأخيرة، ويتذكر جولاته الطويلة فى الشرق الأوسط، هكذا يفتح ذاكراته لسارة، ويسرح فى سرد حياة محشوّة بالقصص وبالمرويات وبالشخصيات، التى تختلط بالواقع والمُتخيّل.
الشرق كان، فى القرنين الماضيين، مادة أولية لشعراء أوروبيين، ملهما لنصوص وردية، ثم صار، بين يدى ماتياس إينار، نافذة يطلّ منها على الأوروبى نفسه، هذا الأوروبى الذى لم يتحرر من البعد الشّرقى فى شخصيته، ويعبر الرّاوى بذاكراته سنوات التجوال المفتوح فى مثلث سوريا والعراق وإيران، يحكيها فى لحظة كان جسده يحتضر فى فيينا وقلبه يعود إلى صباه فى الشرق، ولا يبدو للقارئ، من قراءة أولية، أن الرواية جاءت لمتعة النص، أو للتسلية، بل هى عمل بحثى عميق فى حفره لبورتريهات الشخصيات ولعوالمها، فالكاتب لم يستسهل المهمة التى ورط نفسه فيها، بل وضع لها، على ما يبدو، خطة عمل مرتبة، لا شىء يظهر فيها مصادفة أو من أجل ترصيع النص لا أكثر، كل مقطع يحيل على ما بعده، كأن الراوى فى "بوصلة" يمارس عزفه أيضا فى لحظة السّرد المطوّل، هى ما يشبه "أنطولوجيا الشّرق من وجهة نظر الغرب" بحسب تعبير أحد النّقاد، حتى أن هناك من ذهب بعيدا نحو مقارنة رواية "بوصلة" بـ"ألف ليلة وليلة".
قراءة ماتياس إينار، خصوصا فى روايتيه الأخيرتين، تستوجب انتباها للتفصيلات الصغيرة، ففى العناصر الصغيرة تكمن واحدة من نقاط قوة الكاتب نفسه، فهو لا يكتب ليحكى الشرق، أو ليعيد تصديره للمكتبات، بل يكتب ليصلح شيئا من صورة الشرق التى اهتزت بسبب عقود من الكتابات المستسلمة للتعليب وللعب على غرائز قارئ غربى كسول.
تتناول رواية "بوصلة" العلاقة بين الشرق والغرب من خلال قصة حب ثرية مكتوبة بأسلوب مركز، تشتبك فيها اللغة بالموسيقى بتفاصيل المكان وأجوائه، فبطل الرواية موسيقار نمساوى من فيينا، مصاب بالأرق ويجافيه النوم غذ تطارده ذكريات إقامته فى الشرق الأوسط والعلاقات التى نسجها هناك، ومن اللافت أن غلاف الرواية حمل طاق كسر فى منطقة المدائن قرب بغداد، وكانت الصورة نفسها قد لقيت شهرة عالمية فى القرن الماضى بعد أن ظهرت على ملصق إعلانى للشركة التى قامت بتسيير قطار الشرق السريع.
وأختار الكاتب ماتياس إينار أن تكون المنطقة العربية مسرحاً لكتاباته، منذ روايته الأولى "دقة التصويب"، وتدور أحداثها فى بلد عربى يعانى من حرب أهلية لكن الكاتب لم يحدد إسمه، وفى هذه الرواية يستعرض رينارد مداركه ومعارفه مقحماً إياها داخل جمل طويلة، تتداخل فيها الفصول والذكريات. ومع توالى الصفحات، ندرك بما لا يقبل الشك أن هذا الأسلوب السردى استدعته الشخصية الرئيسية فى الرواية الموسيقى "فرانز ريتر" الملتجئ إلى شقّته فى فيينا، يحاول، خلال ليلة مؤرِّقة، القيام بجولة رفقة مجموعة من هدايا السفر التذكارية التى تتحوّل إلى تأمُّلات وأفكار يتجاور فيها، جنباً إلى جنب، بلزاك مع عمر الخيام، وليسزت مع الكندى.
ومن هذه الذكريات يبدأ البحث عن زمن الشرق الضائع، ومن هنا أيضاً تبدأ الرحلة إلى الشرق التى تشهد بداية علاقة جوهرية بـ"سارة" التى تملك معرفة هائلة عن الشرق وسحره الأخّاذ. خلال ساعات الليل المنسابة، بعذوبة، يتبادل الموسيقى وسارة الحديث الجميل الموشَّح بالأحاسيس والموسيقى والمعرفة والذكريات، كانت بوصلة المعرفة وحبّ الاستكشاف تقودهما، حتماً، نحو الشرق. هذه البوصلة التى تفضى إلى الجمال، لا تشير إلى الشمال، بل إلى الشرق وإلى مزيد من الشرق. الآن، أصبحنا نعرف وجهة السارد الحالم بعوالم الشرق وسحره البليغ، بدءاً باستعراضه المستفيض لأدب الرحلة، وهو أدب ازدهر مع المستشرقين خلال القرون الماضية، منذ عصر الأنوار إلى العصر الرومنسى فى ألمانيا وفرنسا، وقد أفرز عدداً من المؤلَّفات التى أثَّرت كثيراً فى ذهنية الغرب وتمثُّلاته عن الشرق.
ولأن بطل الرواية مهتم بالموسيقى فإنه يحملنا إلى عوالم موسيقى موزار، وبيتهوفن، وشوبرت، وليزت، وبرليوز، وبيزيه، وريمسكى، وكورساكوف، ودوبوسى، وبارتوك، شوينبيرغ...، عبر أنحاء أوروبا جميعها، مبرزاً أنه، منذ القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، انتشر، فى أوروبا، تثاقُف وتلاقُح وانفتاح على الحضارات الأخرى، بحيث كانت أوروبا إسفنجة ضخمة تمتصّ مياه الأدب والفكر والجمال الشرقى، جاعلةً منه مشتلاً خصباً للتفكير والتغيير. فى السياق ذاته يصرِّح بطل الرواية قائلاً: «هؤلاء الرجال العظماء كلُّهم استخدموا ما يأتى من الآخر لتغيير ذواتهم، وتهجينها، لأن العبقرية تحبّ التهجين، وذلك باستخدام العمليات الخارجية لزعزعة دكتاتورية موسيقى الكنيسة». هكذا يفكِّر فرانز ريتر، وهو يناقش، بعمق ودأب، هذه القضايا مع سارة، الجامعية المرتحلة عبر العالم، المفتتنة بالحضارة الماليزية والحضارة الهندية، التيلا تكفّ عن البحث للعثور على أجوبة لأسئلتها الوجودية، هذه المرأة ذات الشعر النحاسى، التى أحبّت فرانز حبّاً عفيفاً، وخلال رحلتهما عاشا عرساً فكرياً تخلَّلته لقاءات كثيرة بباحثين ودارسين للشرق وثقافته وجغرافيته، كان أغلبهم جواسيس فى خدمة وطنهم الاستعمارى، كانوا يتخبّطون بين قِيَم الفكر السامية وقيم السياسة المنحطّة.
يكثّف ماتياس إنار روح الشرق ونوره فى بطلته "سارة"، وهى مستشرقة متخصِّصة، من نوع المستكشفين المنفتحين على رياح الصحراء جميعها، سارة تبحث عن جمال الشرق وروحه منحازة إلى التواصل والحوار والاندماج، تبدو، فى بحثها، كأنها تبحث عن الأصول المشتركة للحضارة الإنسانية.
الرحلة تتصاعد، باستمرار، على مدار (378 صفحة)، سارة هى بوصلتها، بينما يكون ريتر مجرد مؤشر للاتجاه، غارق فى حلم اليقظة، يستعيد الماضى من فيينا بوابة الشرق، حيث يعيش، متذكِّراً سارة، المرأة التى أحبها، المستشرقة التى تغيّر البلد والثقافة كما تبدل الحياة نفسها: تارةً نجدهما فى دمشق، وتارةً أخرى يقضيان ليلة فى طهران، وفجأة، ها هما فى ساراواك بماليزيا، وإذا اقتفينا أثر هذين المخلوقين الحالمين فسنجد أن ريتر يقدِّم جرداً للصور، دون تناسق كرونولوجى، ناسجاً مخيلة تتقاطع وتتلاقى، وكأن ماتياس إينار يضمّن، مرّة أخرى، رسالته الفكرية والإنسانية التى طالما عبر عنها فى رواياته السابقة: مادام الشرق بلا سلام فلا يمكن أن يعيش العالم فى أمان.
موضوعات متعلقة..
ملتقى البرلس للرسم على الحوائط والمراكب يواصل عمله لليوم الخامس
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة