إن الإفراط فى النفقات العامة بشكل واضح كما تفعل الحكومة المصرية الآن، سواءً كان فى الحقيقة منها أو التحويلية، يؤدى إلى ارتفاع فى الأثمان ويفضى إلى تضخم عام وذلك من خلال تأثيرها فى الطلب الكلى ومستوى التشغيل والإنتاج. وهذا الارتفاع فى الأثمان العامة يعنى بالنسبة لأصحاب الدخول النقدية المحدودة والثابتة (مثل أصحاب المعاشات والمرتبات) انخفاض دخولهم الحقيقة وهو ما نعانى منة هذه الأيام بشدة. وهو ما قد يترتب عليه إعادة توزيع الدخول الحقيقية فى غير صالح الطبقات المتوسطة والفقيرة وأصحاب الدخول الثانية كما أوضحت.
وعلى العكس من ذلك يؤمن ضغط الإنفاق العام للدولة أو ضغط الانفاق الخاص (عن طريق رفع الضرائب على الدخول المخصصة للغنفاق)، إلى انخفاض مستوى الأثمان العام، وذلك لعكس الأسباب سابقة الذكر من ضغط للإنتاج والتشغيل وحجم الطلب الكلى. وينتهى إلى إعادة توزيع الدخل القومى فى صالح المتوسطة والفقيرة وأصحاب الدخول الثابتة. وهو المطلوب لتحقيق قدر مناسب من العدالة الاجتماعية التى ننادى بها جميعا .
ومع هذا الوضع المحير للسياسة المالية يمكن القول بأن النفقات العامة، وسواء تلك التى تؤدى إلى زيادة الانتاج أو إلى زيادة الاستهلاك أو إلى تحطيم القيم (مثل النفقات الحربية الضرورية فى الوقت الراهن ولا خيار غيرها فى ظل الظروف الأمنية الداخلية والخارجية) تؤدى دائماً إلى إعادة توزيع الدخل القومى من خلال تحركات المستوى العام للأثمان. وعليه نؤكد أن سياسة الإنفاق العام سواء كانت توسعية أو انكماشية تمارس آثاراً توزيعية على الدخول. ويحدث هذه الآثار من خلال مسلكين وهما: أولا: خلق دخول جديدة (أى المساهمة فى التوزيع الأولى) وثانيا: إعادة توزيع الدخول (أى إدخال تعديلات على التوزيع الأولى).
وعلى ما تقدم ننبه إلى أن التفرقة كثيراً ما يتمخض عنها ما يغير مساهمة فى التوزيع الأولى وإعادة التوزيع، وخاصة إذا ما أدخلنا فى حسابنا كل الآثار التوزيعية المباشرة بما فيها التأثير فى المستوى العام للأثمان وهو ما ينصرف إلى التأثير (غير المباشر) فى مكافآت عوامل الإنتاج ويفرغ سياسة الإنفاق العام من مضمونها الحقيقى وهو إعادة التوزيع فى صالح الفقراء لتقلص الفجوة بين الأغنياء والفقراء فى مصر. أضف إلى ذلك "أثر الإعلان" فبمجرد إعلان الدولة عن تبنى السياسة المالية الجديدة، يصب تأثيرها مباشراً فى "تفضيلات أفراد المجتمع" ومثل ذلك بمجرد إعلان دافع الضرائب بالرسم الجديد، يجنح إلى أن يحمله إلى غيرة رغبة فى تفادى عبء الضريبة (خاصة فى الضرائب غير المباشرة، وهو ما يؤثر فى تفضيلات المستهلكين والقيام بالمنفعة العامة، ومثل ذلك توزيع المنافع العامة بالمجان أو تقديم إعانة لبعض السلع (الدعم) يؤثر هو الآخر فى تفضيلات المستهلكين. وهو ما يحدث اضطراب عام فى السوق من حيث حصيلة الضرائب وحجم الاستهلاك العام، حتى قبل تطبيق السياسة المالية الجديدة.
وهنا يلزم أن نشير إلى موقفنا فى الفكر المالى فى مجال تحديد معنى سياسة إعادة التوزيع، ومن أثر الأدوات المالية فى تفضيلات الأفراد. حيث نرى أن إعادة التوزيع بين مختلف الفئات الاجتماعية، أو بين مختلف عوامل الإنتاج، أو بين مختلف قطاعات الإنتاج، أو حتى بين مختلف أنحاء الإقليم، تتوقف على كيفية إعمال الأدوات المالية فى مجموعها، ويترتب على هذه الحقيقة نتيجتان: أولهما؛ وهى تخص كيفية دراسة إعادة التوزيع تستلزم تحليل كل من الضرائب والنفقات العامة وأثرها على الغنى والفقير (والأهم هنا أن لا يتأثر الفقراء حتى لا يزدادون فقرا).
وثانيهما؛ وهى كيفية رسم السياسة المالية التى تهدف إلى إعادة توزيع الدخل القومى. وتتحصل هذه النتيجة فى ضرورة قيام وحدة فى الهدف تجمع بين سياسة الإنفاق والسياسة الضريبية بحيث لا تلغى واحدة منهما الآخرى ولا تضر هنا بمصالح الفقراء ولا الأغنياء (والأهم هنا أن لا يتأثر الأغنياء حتى يظلوا يعملون فى السوق) لأنهم المصدر الأساسى لتمويل خزانة الدولة. فنقطة التوازن بين الطرفين قابلة للتحقيق، ولكنها تحتاج إلى سياسة مالية رشيدة تحقق مصالح الدولة ولا تجور على حقوق ومصالح الأغنياء ولا الفقراء فى مصر.
* أستاذ الاقتصاد السياسى و المالية العامة - جامعة القاهرة .
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة