لم تكن هذه أبدًا هى العلة المتوقعة لذلك المطلب الذى طلبه نبى الله موسى من ربه حين أمره أن يذهب إلى فرعون، ذلك المطلب الذى سبقته أمور تتناسب ظاهريا مع تلك المهمة العظيمة التى كُلف بها.. رب اشرح لى صدرى.. ويسر لى أمرى.. واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولى، كل ذلك متوقع وواضح، هو ذاهب لدعوة أحد أقسى الطغاة الذين عرفتهم البشرية إن لم يكن الأقسى على الإطلاق، فمن الطبيعى أن يطلب شرح الصدر لهذه المهمة وتيسير الأمر وطلاقة اللسان، وكل ذلك علته واضحة وهدفه ظاهر، بيان الحجة ووضوح الدعوة ثم يأتى المطلب الأخير المؤازرة والعون والسند «واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى أشدد به أزرى وأشركه فى أمرى»، هنا تأتى المفاجأة «كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا» هذا هو المقصد الأسمى وتلك هى الغاية العظمى، التسبيح والذكر لأجل ذلك طلب موسى أن يبعث الله معه أخاه هارون وزيرا، لا يتحدث هنا عن عون مادى أو دعم ملموس، ولكنها الإعانة على التسبيح والذكر! والعجيب أن التسبيح = ذكر فلماذا التفصيل؟ إجابة هذا السؤال تظهر حقيقة تلك العلة، وذلك المقصد الذى نغفل كثيرا عنه حين نتحدث عن الذكر أو نتصوره..الذكر معنى أشمل كثيرا من تمتمات غامضة وهمسات غير مفهومة يحرك بها البعض شفاههم أثناء مرور أصابعهم على حبات المسبحة بشكل روتينى لا يحمل باطنه كثيرًا مما يبدو على ظاهره! الذكر حياة وسلوك ومنهاج ومعاملة، حالة متكاملة يتلبس بها الذاكر فى سائر أموره وأحواله.
إن هذا المقصد الذى أعلنه نبى الله موسى، عليه السلام، فى سياق الإقبال على مواجهة فرعون بدعوته لهو أبلغ دليل على عموم وشمول معنى الذكر، وهذا الفهم لم يتأت لموسى فى تلك اللحظة، بل سبقه تأصيل ربانى لهذه القيمة حتى تشربها قلب موسى «إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى»، كان ذلك هو أول أمر تعبدى يتلقاه موسى بعد أن كلمه ربه وعرفه بنفسه فى الوادى المقدس بصحراء سيناء «فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى» هكذا يبين له مقصد العبادة وغاية الصلاة منذ البداية «لذكرى» ثم يعضد الله ذلك الفهم بمزيد من التأكيد على الأمر، فيقول بعد أن يحقق مطلبه ويبعث معه أخاه: «اذهب أنت وأخوك بآياتى ولا تنيا فى ذكرى» لا تكلا ولا تملا ولا تتوانيا عن ذكرى حتى فى هذا الموقف العصيب فى مواجهة فرعون وفى مواجهة كل صعاب هذه الدنيا وهمومها، ما من زاد مثل الذكر، لذلك شرع الله الذكر فى أحلك المواقف «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون»، ولذلك أيضا جعل الذكر مقترنا بأهم العبادات، فالصلاة إنما شرعت لذكر الله، وهو أكبر ما فيها «وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر» والصيام جعل التكبير من علله ومقاصده «ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم» والحج كله يتخلله الذكر والنسك كذلك «ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام» وعلى هذا جل المواضع القرآنية الكثيرة التى وردت فيها تلك القيمة العظمى والمقصد الأسمى أو بعد ذلك كله يتصور البعض أن الذكر قاصر على بعض حركات الشفاه التى لا تجاوز الحناجر ولا تمس القلوب أو ينعكس صداها على الجوارح والسلوكيات والمعاملات؟! هيهات هيهات.
الذكر قضية أعظم من ذلك كثيرًا وأشمل، الذكر حياة كاملة حين تدرك هذا ويستقر فى ذهنك أن الذكر مهمة حياتك وزاد قلبك وغذاء روحك الحقيقى حينئذ فقط ستفهم قول نبيك، صلى الله عليه وسلم: «مثل الذى يذكر ربه والذى لا يذكره كمثل الحى والميت» وعندها سيكون مقصدك الأسمى الذى تسعى بكل ما أوتيت لتحقيقه وشعارك الأعظم فى تلك الحياة هو ذلك الشعار الذى رفعه موسى، عليه السلام، وطبقه عمليا بكل حذافيره «كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
دكتورة امل
رائع
رائع ....كتاباتك كلها رائعة,,,,انتظرها بفارغ الصبر
عدد الردود 0
بواسطة:
walid
جزاكم الله خيرا
جزاكم الله خيرا
عدد الردود 0
بواسطة:
walid
جزاكم الله خيرا
جزاكم الله خيرا
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
قضية الذكر
فتح الله لك ، وأفاض عليك من علمه . جزاك الله خيرا