بعد إخفائه القسرى عن هذا العالم المتوحش.. كان ينبغى عليه الظهور.
ثمانية عشر عاما من الخوف ومن المراقبة والحذر الشديد والاجتهاد.
ثمانية عشر عاما قضاها وحيداً.. بلا صديق ولا قريب.. متوارياً عن الأنظار كمجرم هارب يخشى اقتفاء أثره وانكشاف جريمته .
نظارات شفافه أرى أنه لا داعى لارتدائها.. يرتديها هو رغم نظره الثاقب .. ليغير شيئا من ملامحه فيصبح باهتا لا يلفت الأنظار.
أنه الرهاب من البشر .. يخشاهم كما علمته والدته أن يكون دوما .. لبقاً حذرا .. كغنمة وحيدة فى البرية عليها الهروب من كل الذئاب .. عليها أن تراعى خطواتها و أنفاسها .. و الا صارت قطعة لحم بين أنيابهم
خدين محمرين يكشفان عن خجل سافرٍ.. و كلمات قليله تحذرك الاقتراب من هذه الشخصية
حتى اللحظة التى يجب عليه فيها الظهور .. واقف على اعتاب مستقبله العملى و المهنى .. بحقيبته التى لاتختلف كثيرا عن حقيبته المدرسية كم هى ثقيلة بذلك الحشو المملح و الحامض من كتب التشريح و الفسيولوجى و الهستولوجى و الكيمياء الحيوية .. و فى يده اليمنى امرأة عجوز .. يناديها بين الفينة و الفينة أمى .
ممسكان ببعضهما البعض .. لا تدرى أيهما أكثر تمسكاً بالاخر
كليهما خائفين .. هى فى خوف من فقده .. وهو فى خوف من اشياء لا يعرفها .. عليه أن يشعر بالخوف و حسب
دخلا سوية فى أول يوم أعتاب الطب .. من أوسع أبوابه فهو الطالب المجتهد .. الأول على أقرانه .. والمتميز بينهم
تعرف ورقة اجابته .. من تنظيمها المبالغ فيه .. من خطه الجميل ومن المعلومات الكثيرة التى تفوق المناهج الدراسية
لا مجال للشك بأنه سيكون يوما ما أحد اساتذة هذا الصرح .. وربما قد يصبح وزيرا للصحة .. هذا أن تخلى عن خوفه
غريب .. وسط كل هؤلاء الغرباء .. ومن قال أنه يريد التعرف عليهم
داخل المدرج فى الصف الأول يجلس منتبهاً .. لا يشتت انتباهه شيء .. حتى صوت المدرجات الخلفية الصاخبة ببعض التافهين الذين يقصون عليك أشياء .. ليس من الضرورى لك معرفتها
و مدرجات آخرى تتحدث عن قصة شعر الفنانة فلانه .. و فستانها على البساط الأحمر
و أستاذ يقف أمام ما يفوق المائة طالب .. يتجاهل كل هذا الصخب .. ليحكى لك عن انجازاته المبالغ فيها و دراساته العظية و ابحاثه التى نشرت فى مجلات محلية .. و التى لن يستفيد منها أحد .. سوى موظف الاحصاء الذى يقبض ثمناً مقابل احصاءت مضخمة أو لا بد منها
حرك نظرك خارجا ..هناك إلى حيث تقف تلك المرأة الوحيدة .. رافعة يديها إلى السماء
أيارب وفق ولدى
أيارب احفظ ولدى
خائفة عليه أن يتوه فى الزقاق .. أو أن تتمكن منه أيدى الشر العابثة .. أو أن يتمرد على تلك الحياة التى اختارته له
ثمانية عشر عاما من الوحدة و العمل الشاق
أرملة شابه .. ثم بعد أشهر قليلة أم ليتيم وحيد
نذرت له حياتها و أيامها .. ليلها و نهارها .. وجدت فيه ضالتها و أسكتت به وحدتها و تمسكت به فى أزماتها و هاهى اليوم أوصلته إلى أكثر مما تتطلع .. سبع سنوات .. مسافة زمنية قليلة .. لتلتحق حرف الدال الوسيم باسم ولد ضعيف .. تعطيه الثقة و القوة و الاحترام و المكانة .. واهمة أن بهذا الحرف المبهج ستتحول حياته إلى أكثر الفصول راحة و سعادة .. و ستفتح له أشد الابواب احكاما .. و ستتمناه أكثر العائلات فخامة صهرا لهم .. أيا صبرا على تلك السنوات السبع القادمة
أى بنى .. لقد بدأنا أول خطواتنا نحو السعادة .. و لأن الغيرة تلاحق زملاء الصف الواحد .. و لإن هناك صنف من البشر .. يتألمون اذا رأوا أحداً لا يستطيعون التدخل فى شئون حياته .. لا يستطيعون التلاعب فى اسراره .. و لا مجريات أحداثه
بدأوا استنزاف مشاعره .. و الضغط على اعصابه .. مرة استهازا باجتهاده المبالغ فيه .. و اخرى احتقارا لطريقة لباسه .. و مرة تقليدا لطريقة كلامه
انهم اوغاد . . أقل ما يقال عنهم هو ذلك
و هاهو كما اعتاد الحذر و التجاهل .. يوهمهم بسمعه الثقيل .. يغريهم بتجاهله .. يمر بجوارهم لا يحرك ساكنا لما يلقوه عليه من وابل الاذى
لكن أن يطال الإذلال والدته .. فهذا الذى لن يستطيع احتماله
والدته التى تتجاهل مشاغلها .. تأتى معه كل صباح .. فى حديقة الكلية تنتظره بشغف حى انتهاء يومه .. لتلقاه بحب .. و تنظر اليه كما اللقاء الأول يوم احتضنته بين ذراعيها .. و أقسمت أن لا تفارقه حتى اللحظات الأخيرة من عمرها
انها أبواب الجحيم التى بسخريتهم .. فتحوها لتحرقهم .. لتطال السنتهم الحمقاء فتخرسها
انه غضب ثمانية عشر عاما مكبوت تحت سيطرة الخوف و الحذر .. لتطال الدائرة كل من سمحت له نفسه أن ينظر نظرة سخرية لإى امرأة مضحية كأمه
يومها .. حمل أمه الهزيلة فوق كتفيه .. دخل بها الجامعه .. و أدخلها المدرج أجلسها بجواره .. غير ابه بأى سخرية كانت
يحملها معه إلى المكتبة يجلسها بجواره .. و يذاكر بجهد عظيم لأجلها
يطعمها بيده
غير مهتم بسخرية هؤلاء الحمقى
كلما كانوا يزيدون سخرية .. يزداد هو عطفا و حبا و حنانا
يقبل يدها .. كلما أسمعوه كلمة لا تليق .. يقبل رأسها كلما نظروا اليها
كلما ازدادوا سوءاً ازداد هو عاطفة
قصة كهذه مليئة بالعاطفة عرفت طريقها للاعلام .. و هاهى الآن تكرم كأم مثالية .. كقدوة رائعة .. ربت انسانا و لم تخرج للبشرية بلطجياً .. يحاول الثأر لأمه و لنفسه
لم يهشمهم بلكمات قوية و لا بجروح قطعية و بأعيرة طلق نارية
أحرقهم بالعار و بالذل .. الذى سيلاحق سمعتهم
. ألحقهم .. بقصة العبرة .. لنتخذ منهم عبره
بلطجى
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة