د. عمار على حسن

كيف ساعدت السلطات المتعاقبة على حكم مصر الإخوان والسلفيين؟

الخميس، 22 يناير 2015 12:03 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يتمكن الإخوان والسلفيون من التغلغل فى المجتمع المصرى بعيدًا عن عجز الدولة فى تقديم الخدمات للمواطنين، وتواطئها أو صمتها، وأحيانًا دعمها، وهذا المسلك ليس وليد السنوات الأخيرة، بل بدأ منذ منشأ الجماعة، أو فى سنواتها الأولى، فحسن البنا، مؤسس الإخوان، وقف مع الملك فاروق ضد الحكومة غير مرة، وتعامل مع إسماعيل صدقى، رئيس الوزراء، وأيد موقفه ضد حزب الوفد، الممثل السياسى الحقيقى للأمة المصرى، فحصل البنا بمقتضى هذا على إعانة من وزارة التربية والتعليم عام 1946 مكنت الجماعة من بناء مدارس، والحصول على كتب وقرطاسية مجانية، كما قامت الوزارة بدفع النفقات التعليمية والإدارية لهذه المدارس. وحكى أحمد حسين، زعيم «مصر الفتاة»، فى مرافعته القضائية عن أحد المتهمين فى قضية مقتل رئيس وزراء مصر محمود فهمى النقراشى 1949، أن حامد جودة، الوزير السعدى فى حكومة حسين سرى 1941 قد حضر إلى المعتقل الذى حل فيه البنا وبعض الإخوان، واجتمع به لساعات، وبعدها أُفرج عنه وأتباعه، وتُرك بقية المعتقلين من الاتجاهات السياسية الأخرى، وذلك بغية مساندة الإخوان للسعديين، مقابل أن يتركوا له حرية الحركة والدعوة والانتشار، وغضت الحكومة الطرف عن مخالفة البنا للقانون فى إنشائه نظام الجوالة، كما كانت المؤسسات الاجتماعية للإخوان، كالمستشفيات والمدارس وجميعات البر، تنشأ تحت رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية التى كانت تمنحها الإعانات أيضًا، كما تمنح شعبة الإخوان الخمسمائة بعض المساعدات، خاصة عبر مجالس المديريات والبلديات. وفى ركاب هذا أنشأ البنا جمعية للكشافة، والتى اتسعت ووصل عدد أعضائها عام 1948 إلى أربعين ألفًا، عمل الكثير منهم فى محو الأمية، ومنع انتشار الأوبئة كالملاريا والكوليرا. وفى العام نفسه وصل عدد فروع الإخوان إلى 500 فرع تقدم خدمات اجتماعية، زادت إلى ألف عام حل الجماعة، كما عالجت مستشفيات الإخوان ومستوصفاتهم 51 ألف مريض.

وعقب ثورة يوليو 1952 نسق جمال عبدالناصر مع الإخوان فى السيطرة على المجتمع، وأغروه بأنهم البديل الاجتماعى للأحزاب السياسية، لذا أقدم على حلها مطمئنا، لكنه سرعان ما اصطدم بهم حين تصرفوا على أن الضباط الأحرار مجرد مجموعة عسكرية فى الواجهة، عليها أن تنفذ مشروع الإخوان وتمتثل له، وتسلم مقاليد الأمور فى البلاد تدريجيًا لقيادات إخوانية. وحين أراد السادات محاصرة اليسار الذى اشتد عوده فى زمن عبدالناصر، وظف التيار الدينى المسيس فى تحقيق هذا الهدف، وفتح له باب الجامعات والمؤسسات والنقابات ليتمدد فيها، وهو فى مأمن من أى نقد أو تخوف من هذا المسلك الخطر، فما كان منه إلا أن استفحل، وملك زمام المبادرة، ولم يعد طوع بنان السادات نفسه، بل اصطدم به ثم اغتاله فى نهاية المطاف. ويذكر بعض قادة الإخوان أن التنظيم كان قد أوشك على الانقراض فى أواخر عهد عبدالناصر، بعد صدامى 1954 و1965، ونبذ المجتمع للفكر الإخوانى، لكن السادات أعطاه قبلة الحياة، ويدللون على هذا بأنه حين طُلب من القيادى الإخوانى مصطفى مشهور الذى صار مرشدًا للجماعة فيما بعد، أن يتواصل مع كوادر الإخوان فى مختلف المدن والقرى تحت رعاية أجهزة الأمن، عاد إلى كراسة قديمة كان قد سجل فيها أسماء هؤلاء وعناوينهم وخبأها، فلم يجد من يتواصل معه سوى خمسمائة شخص فقط، فبدأ بهم فى إعادة تكوين جماعة الإخوان، ونجح فيما بعد عبدالمنعم أبوالفتوح فى ضم الآلاف من شباب الجماعة الإسلامية فى الجامعة إلى الجماعة، لتبدأ رحلة تأسيسها الثانى الذى انتهى بوصولها إلى السلطة، وسقوطها عنها.

وسيذكر التاريخ- حين يتاح لمنصفين أن يكتبوه- أن الرئيس المصرى حسنى مبارك الذى خلعته ثورة يناير كان النصير الأول لجماعة الإخوان المسلمين، رغم ما كان يبديه لها من كراهية ظاهرة، انعكست فى إجراءات قسرية تتابعت من دون هوادة ضد الإخوان، ورغم ما كان يعلنه نظام مبارك من خطاب صارخ عن «مدنية الدولة» وعن «الجماعة المحظورة» وعن «الإصلاح السياسى» المتعثر والمتدرج، وعن «تقوية الأحزاب السياسية»، فقد جفف الحياة السياسية المصرية، حين ردم كل المنابع والمنابر الحقيقية للمشاركة الفعالة، وحول الأحزاب إلى «ديكور» بعد أن أوقف نموها بإجراءات التقييد الصارم التى نبتت على ضفاف قانون الطوارئ، ففتح الباب وسيعًا للإخوان كى يتمددوا فى المجتمع من دون منافس، بل إن ضغوط مبارك على الإخوان من كل اتجاه حولتهم فى نظر الناس إلى «ضحايا» أو «استشهاديين سياسيين محتملين» أو «مناضلين»، فتعاطفوا معهم بقوة، وأضافوا إليهم كل رصيد كان يخسره النظام وحزبه الشائخ، ووجدوا فيهم «البديل» رغم أن مشروع الإخوان لم يكن قد نضج بعد، وهو ما ثبت ببرهان ناصع حين تولوا السلطة بعد ثورة يناير. وحين أراد مبارك أن يواجه الإخوان فى الساحة الاجتماعية المفتوحة لم يعط التيار المدنى فرصة للقيام بهذه المهمة، بل اعتمد على السلفيين بشتى اتجاهاتهم، إلى درجة أن أجهزة الأمن كانت حين ترصد نشاطًا مفرطًا لإخوانيًا فى قرية أو حى ما، تستدعى شيوخ السلفيين فى المكان لتسألهم: كيف تركتم له مجال الدعوة، فجذب الناس إليه، وأخذهم منكم؟، وبعد الثورة فضل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى أسند إليه مبارك السلطة بعد تخليه عنها التعامل مع الإخوان والسلفيين على التعامل مع التيار المدنى، لأنهم مجموعات منظمة يسهل التعاطى معها بالنسبة لقادة عسكريين اعتادوا النظام، وطاعة الأوامر. وساعد على هذا التوجه أن الولايات المتحدة الأمريكية ضغطت من أجل إعطاء «الإخوان» فرصة للحكم. ولا يقتصر الأمر على الإخوان والسلفية النازعة إلى السياسة بل يتم التعامل بالطريقة ذاتها مع الجمعيات الخيرية الإسلامية، حيث بينت العلاقة بين الدولة وهذا النوع من الجمعيات فى عهد مبارك إلى منهاج حكومى مفاده أن «النظام السياسى لا يسعى فى ظل استراتيجية الدمج التنظيمى للجمعيات الدعوية إلى تغيير الأصل الأيديولوجى لها، إنما يهدف إلى عدم تحولها لمصدر من مصادر دعم جماعات سياسية معينة، ومع هذا فشل نظام مبارك فى تحقيق هذا الهدف، إذ سرعان ما استغل الإخوان والجماعة الإسلامية والجهاديون هذه الجمعيات فى التمدد الاجتماعى، وتوفير الدعم اللوجستى لمجموعاتهم التى تلعب أدوارًا سياسية ظاهرة».

ومن هنا فإن أداء السلطات التى تعاقبت على حكم مصر ساعدت التيار الدينى، على اختلاف جماعاته وتنظيماته، على التمدد الاجتماعى، سواء بشكل غير مباشر من خلال انسحاب الدولة من تقديم الخدمات، وضربها المتتابع للتيار المدنى الذى يطالب بتداول السلطة، والتعددية السياسية، واحترام الحقوق والحريات العامة، واتباعها إجراءات قسرية فى بعض الأحيان يستغلها أتباع هذا التيار فى كسب التعاطف الشعبى معهم، أو بشكل مباشر عبر إبرام الصفقات الأمنية مع الإخوان وغيرهم، مثلما تم فى عهد مبارك، أو توظيفهم فى ضرب اليسار، كما فعل السادات، أو استخدامهم فى التخلص من الأحزاب السياسية، كما دبر عبدالناصر، أو ضرب الحركة الوطنية المصرية التى كان يتزعهما «الوفد» حسبما خططت ونفذت أحزاب الأقلية التى ناصبت «الوفد» العداء، أو صارعته على السلطة. ولعب التيار الدينى على هذه التناقضات والتقلبات بين المصالح والأيديولوجيات، وتمكن من جعل خطه البيانى يسير دومًا فى تصاعد نحو السلطة السياسية من خلال تعميق وجوده اجتماعيًا، عابرًا للطبقات والشرائح والفئات، ومستندًا إلى «التنمية القاعدية» كأسلوب لمخاطبة المواطن المصرى، خاصة فى الفئات الوسطى والدنيا، لينجح فى جذبها إليه قبل أن تنفض عنه بعد انكشاف نواياه الحقيقية، ووجود هوة واسعة بين الشعارات التى يرفعها، وقدرته على تطبيقها فى الواقع المعيش.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة