حطمت ثورة يناير أسطورة أولوية الإصلاح الاقتصادى على حساب الإصلاح السياسى، كما كرست تطلعات كوكبة من أفضل شباب مصر ثاروا على الجمود والتخلف والتبعية والدولة البوليسية التى تسلطت على حياتهم ومقدراتهم لعقود أربعة، بعد أن كتبت نكسة يونيو نهاية مشروع النهضة الذى حمله جمال عبد الناصر بتواطؤ وتدبير دولى معروف، لكن مصر قامت من تحت الركام وسطرت أول انتصار فى تاريخ العرب على إسرائيل، وبالرغم من أن هذا النصر تم الالتفاف عليه وحصار مكاسبه إلا أن إرادة المصريين لم تنكسر وظلت جمرة أحلامهم مشتعلة تحت الرماد، حتى توهجت بفعل رياح يناير وأطاحت بمبارك وأركان حكمه، وإذا كان مسار تلك الثورة قد تعثر ولم ينتج أفضل ثمراته بوصول الإخوان للحكم وتهديد أسس الدولة الوطنية فى مصر، التى لم تستأنف بعد مسيرتها الصحيحة نحو التنمية والديمقراطية فمن المهم ونحن نقترب من ذكرى ثورة 25 يناير الرابعة أن نجرى جردة حساب لمسار تلك الثورة ومسار مصر نحو الديمقراطية المنشودة، لاستشراف المستقبل الذى قدم الشعب تضحيات غالية من أجله.
يعتقد البعض أن مسيرة الديمقراطية فى مصر كانت أكثر ازدهارًا فى ظل الاحتلال البريطانى والحكم الملكى منها فى ظل الحكم الجمهورى، وأن من قضى على الديمقراطية فى مهدها كان جمال عبد الناصر وهذا الرأى على شيوعه يقدس آليات الديمقراطية من صندوق وبرلمان وإنتخابات دون أن ينظر بشكل مكافئ لفلسفة الديمقراطية ومقاصدها فى تحقيق الحكم الرشيد الذى يمكن الناس من حقوقها وحرياتها ويتيح لهم الفرصة للمشاركة فى إدارة وطنهم.
اعتقد جمال عبد الناصر بحق أن المجتمع المصرى فى ظل الفقر والأمية لن يستطيع ممارسة ديمقراطية حقيقية، وأن استئناف مسار ديمقراطى والبدء بانتخابات فى أعقاب الثورة سيأتى بنفس اللاعبين ويعيد إنتاج نفس الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى قامت الثورة من أجل تغييرها، لذا اختار طريقًا آخر للديمقراطية يبدأ بتحسين حياة الناس وتوسيع حيز الطبقة المتوسطة التى هى الرافعة الاجتماعية للديمقراطية والقادرة على حمايتها وممارستها والدفاع عنها فبدأ بإجراءات اقتصادية واضحة فى أول أيام الثورة هى قرارات الإصلاح الزراعى، التى وإن اختلف البعض مع جدواها اقتصاديًا على الزراعة إلا أن أحدًا لم ينكر أنها ساهمت بشكل واضح فى عمل حراك اجتماعى دفع بشريحة كبيرة إلى احتلال مكانها ضمن الطبقة المتوسطة بالشكل الذى مكن الكثير من المهمشين من الحصول على حقهم فى تعليم ودخل مناسب وترقى اجتماعى مستحق، صاحب ذلك خطة طموحة للتنمية الاقتصادية مزجت بين التصنيع الواسع والزراعة فضلاً عن صيانة نظام تعليمى وصحى وخدمات حكومية مناسبة ما زالت بعد كل تلك السنوات هى الأفضل مقارنة بما نعيشه اليوم، كانت مقاربة ناصر صحيحة ولولا التحدى الإسرائيلى والأمريكى والحرص على تركيعه من قبل الاستعمار القديم، لمرت تجربة كانت كتفًا بكتف مع كوريا الجنوبية فى الستينيات فضلاً عن التحدى المتعلق بالقوى الرجعية فى الداخل وعلى رأسها الإخوان، كل ذلك أجهض تلك التجربة التى كان من الممكن أن تصنع لنا التراكم المطلوب وتهيئ الأجواء المناسبة للديمقراطية المنشودة.
جاء السادات وهو يرفع شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأنفق من شرعية انتصار أكتوبر حتى بددها تمامًا باتفاقية السلام مرة، وبالانفتاح الاقتصادى الذى أنتج الفساد وبنى لها مؤسسات أصبحت أحد أهم مؤسسات القرار، وعندما جاء مبارك للحكم تكفل بالقضاء على ما بقى من دولة ناصر بالخصخصة وحماية وتدعيم الفساد وتأكيد استقالة مصر من مسئولياتها تجاه الإقليم والعالم وفى الأخير استقالة الدولة من مسئولياتها أمام الشعب بحيث تبددت آمال الناس فى الإصلاح الاقتصادى، الذى ظل مبارك يبشرهم بسقوط ثماره عليهم دون أن يدركوا تلك الثمرات أو حتى هذا الإصلاح السياسى الذى تعذر فى تغييبه بفزاعة الإخوان الذين وصلوا للحكم بعد كل تلك العقود على سفينة يناير التى تحطمت أشرعتها على أيديهم بعد أن تركت مطالبها على الشاطئ عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية لن يحققها سوى ديمقراطية حقيقية، هى أساس مشروعية النظام الجديد الذى تحاصره مشكلات بعضها قديم تمثله جماعة الإخوان التى تأبى إلا أن تبقى شوكة فى خاصرة الدولة وكل نظام سياسى ملكيًا كان أم جمهوريًا ونظام مبارك الذى يتلمظ شوقًا للعودة إلى أماكنه والنظام الجديد الذى يجد نفسه محاصرًا بين هذين الطرفين من جهة وبين طموحات وتطلعات الشعب من جهة أخرى.
ونحن على مشارف انتخابات برلمان 2015 وفى ظل بيئة سياسية وتشريعية غير مواتية، سواء بفعل خوف النظام من تركيبة البرلمان القادم وعودة الإخوان والوطنى أو تشرذم القوى السياسية وعدم قدرتها على كسب ثقة المواطن المصرى وتكوين بنى حزبية حقيقية قادرة على المنافسة وصياغة برامج نهوض حقيقية لهذا البلد تبقى هناك ثلاثة شروط تصنع مستقبل الديمقراطية فى مصر أو تحدد ملامحه:
أولها: الإرادة السياسية للنظام الحاكم ومدى الإستعداد لعلاج عيوب النظام السياسى المصرى من خلال تشريعات تحقق ذلك وإرادة تهيئ مناخ المنافسة وتوفر الحرية اللازمة وتحرس العملية الانتخابية وما يرتبط بها بحياد وشفافية ونزاهة.
ثانيها: تنظيم الأحزاب لنفسها وتقوية بنائها التنظيمى، بالاتصال بالناس وإنتاج برنامج وخطاب واقعى وملهم.
ثالثها: الشروط وأهمها حسم الشباب الثورى لحيرته بتنظيم نفسه فى أحزاب تعبر عنه، والانتقال من مربع الاحتجاج لمربع المنافسة السياسية، خاصة فى ظل وجود تشريعات تجعل له حظ مناسب فى تركيبة المجالس الشعبية المحلية التى هى المدرسة الحقيقية التى يستطيع من خلالها إبراز طاقاته وتحرير قدراته الخلاقة.
أخيرًا يبقى دور الإعلام المسئول الذى يبرز القيم الحقيقية للمنافسة السياسية، وإعلاء مصالح هذا البلد والكف عن مغازلة رأس المال أو رأس الحكم والتمسك بميثاق شرف وطنى وإعلامى يقدم الحقيقى وليس المزيف قيمًا وأفكارًا ورموزًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة