جاء رد الفعل بعد حادثة الحادى عشر من سبتمبر ضد الولايات المتحدة الأمريكية أقوى بكثير مما توقع كثيرون، وأخذ شكلا "متعولما" لمواجهة تنظيم القاعدة الذى "تعولم" فى رؤيته وتحركاته ـ حسبما شرح الظواهرى فى تصوره للعدو ـ فقد وجدت دول عديدة نفسها تحت وطأة الإيفاء بمطالب أمريكية محددة فى خضم التداعيات التى ترتبت على الحادث المذكور. وأول هذه المطالب يأخذ طابعا أمنيا، سواء فى جانبه المباشر المتعلق بتعاون عملياتى فى مطاردة عناصر تشتبه واشنطن فى أنهم ينتمون إلى "تنظيم القاعدة" الذى تبنى الحادث المشار إليه سلفا، أو فى جانبه غير المباشر المرتبط بالتعاون فى مجال المعلومات الأمنية بين أجهزة الاستخبارات. وهناك مطلب ذو طابع اقتصادى يتعلق بملاحقة مؤسسات مالية بعينها بتهمة اتصالها بمنظمات "إسلامية" تناوئ السياسة الأمريكية، أو المطالبة بتمويل عمليات عسكرية محددة، أو على الأقل ضمان تدفق الإمدادات النفطية، خاصة إلى الولايات المتحدة، التى هى أكبر مستهلك ومستورد للبترول فى العالم. ويوجد أيضا مطلب شائك ذو صبغة ثقافية ـ دينية ويقع فى قلب الهوية العربية ـ الإسلامية، يتمثل فى المطالبة بتعديل مناهج التعليم الديني، هو الأمر الذى يثير جدلا فى العالم العربى لن تخمد أواره فى وقت قريب. علاوة على ذلك كان للحادث المذكور انعكاساته على العديد من الصراعات الإقليمية، مثل الصراع العربى- الإسرائيلى، والصراع الباكستانى - الهندى حول إقليم كشمير. كما كان له انعكاساته على الحروب الأهلية فى العديد من الدول مثل القتال الذى تخوضه القوات الروسية ضد المقاتلين الشيشان، والحرب الأهلية فى السودان، التى انتهت إلى توقيع اتفاق ماساكوش فى أغسطس 2002، والذى ما كان له أن يتم لولا حسابات الخرطوم فى ضوء تداعيات الحادى عشر من سبتمبر.
وهناك كذلك الحرب التى تخوضها الحكومة الفلبينية ضد جماعة أبو سياف، والتى تدخل الولايات المتحدة فيها طرفا مباشرا من خلال إرسال خبراء عسكريين وأمنيين لمساعدة الجيش الفلبينى، وهو الأمر الذى اتبعته واشنطن مع كل من جورجيا واليمن، فى إطار جهودها لتعقب عناصر "تنظيم القاعدة". وأدى حادث الحادى عشر من سبتمبر إلى تغيرات سياسية واستراتيجية وتأثيرات عديدة، حيث تمكنت الولايات المتحدة من النفاذ بقوة إلى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية والقوقاز، من خلال إقامة قواعد عسكرية وأنماط للتعاون الأمنى، واقتربت أكثر من تحقيق هدفها فى السيطرة على نفط منطقة "بحر قزوين"، وألقى الحادث بظلاله على اقتصاديات دول عديدة، فى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
إن رد فعل الولايات المتحدة على تفجيرى واشنطن ونيويورك فى 11/9/2002 أظهر أن تقدير الأمريكيين لـ"تنظيم القاعدة" تعدى حدود التعامل معه على أنه جهة محدودة القدرات بإمكانها أن تزعج دولا صغيرة أو متوسطة القوة، كما كان الحال فى السابق، وبدأ التوجه الذى أخذ يتبلور لدى الإدارة الأمريكية منذ تفجيرات نيويورك عام 1993 يدفع الأمور فى طريق التعامل مع هذا التنظيم بجدية، وفى إطار شامل، أمنى وعسكرى واقتصادى وسياسى وإعلامى.. الخ، الأمر الذى جعل المواجهة تأخذ طابعا عالميا، يكافئ التصور الذى سطره الظواهرى على الورق حين قال فى كتابه "فرسان تحت راية النبى": "لا يمكن خوض الصراع من أجل إقامة الدولة المسلمة على أنه صراع إقليمي، فقد اتضح مما سبق أن التحالف الدولى بزعامة أميركا لن يسمح لأية قوة مسلمة بالوصول للحكم فى أى من بلاد المسلمين.. ولذلك فإننا تكيفا مع هذا الوضع الجديد، يجب أن نعد أنفسنا لمعركة لا تقتصر على إقليم واحد".
وتطبيقا لهذا القول كان الحادى عشر من سبتمبر، ومن قبله حادث نيروبى ودار السلام وتفجير المدمرة "كول"، ليصنع "تنظيم القاعدة" ما كان يستوجب رد فعل عالمى شامل، وما أكد وقتها بما لا لبس فيه أن "تنظيم الجهاد" المصرى قد "تعولم" من أوسع الأبواب.وهذا النزعة استمرت حتى بعد أن قامت الولايات المتحدة بضرب طالبان وإسقاطها عن الحكم، وإفقاد تنظيم القاعدة، وفى قلبه "الجهاد المصرى" الحاضن السياسى والاجتماعى الذى يحميه ويوفر له إمكانيات كثيرة يستخدمها سواء ضد الغرب أو ضد الأنظمة التى كانت تحكم الدول العربية فى مرحلة ما قبل انطلاق الثورات والانتفاضات فى عدة بلدان عربية.
وقد ساح بقايا قيادات الجهاد المصرى فى أرض عديدة بعد سقوط طالبان، فبعضهم ذهب إلى اليمن واعتصم بجبالها الوعرة محتميا بالمتطرفين هناك والذين بنوا شبكة من المصالح والمنافع مع القبائل، التى لها دور اجتماعى بارز. وهناك من تسلل إلى جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، معتمدا على الجماعات والتنظيمات النظيرة المتواجدة فى هذه البلدان، والتى ارتكبت أعمال عنف ضد الدولة والمجتمع. وهناك من تمكن من الذهاب إلى بلدان المغرب العربى، لينضم إلى ما يسمى "تنظيم القاعدة فى بلدان المغرب الإسلامى، سواء عن طريق البحر، أو التسلل عبر الأراضى السودانية، فيما حل بعضهم على السودان نفسه. وهناك من عادوا مرة أخرى إلى الصومال وتعاونوا مع التنظيمات الدينية هناك التى سيطرت على أجزاء من الدولة، وأقطعته وحكمته بتصورات وتشريعات مختلفة.
واستضافت إيران عددا كبيرا من الجهاديين المصريين، كان على رأسهم محمد الظواهرى، حتى يكون بوسعها أن تستخدم أو تستعملهم فيما بعد فى تدابير تخدم مصالح طهران. وهناك من وصل إلى أوروبا وحصل على جنسيات فى بلدان مختلفة، وبعضهم حصل على حق اللجوء، واستفادوا من الإمكانيات التى توفرها الدولة هناك سواء كانت مادية أم فى مجال حقوق الإنسان، أو من خلال توظيف الغرب لهؤلاء فى تحقيق مصالحه، مثلما ظهر بعد ثورة 25 يناير ووصول الإخوان إلى الحكم. وحين غزت الولايات المتحدة العراق وجد هؤلاء الفرصة سانحة للذهاب إلى أرض جديدة، أو وطن بديل، تحت راية الجهاد ضد الأمريكان، وصاروا جزءا من التنظيم الذى تمكن من إعلان ما سمى بـ"دولة العراق الإسلامية" التى كانت نواتها الرئيسية هو "جماعة التوحيد والجهاد" التى تزعمها أبو مصعب الزرقاوى والذى بايع تنظيم القاعدة، قبل أن يختلف معه فى مرحلة لاحقة. ولما اندلعت الثورة فى سوريا، هاجر هؤلاء إليها، ولملموا أشتاتهم من كل مكان، وساهموا مع متطرفين سوريين وبمساعدة من بعض الدول الإقليمية فى تحويل الثورة إلى حرب مذهبية واقتتال أهلى وصراع إقليمى ودولي، حتى انتهى الأمر يإعلان ما يسمى "الدولة الإسلامية فى بلاد العراق والشام" المعروفة باسم "داعش" وهنا وجد الجهاديون المصريون، سواء الذين جاءوا إلى سوريا من تركيا وبلدان أوروبية أو ما سافروا إليها رأسا من مصر فى سنة حكم الإخوان، فرصة سانحة كى يمارسوا ما تعلمون من خبرات طويلة ليس فقط فى القتال الميدانى إنما فى إنتاج الأفكار والآراء الفقهية المغلوطة التى تمثل أيديولوجيا لداعش أو مسار لحركتها وأهدافها وآخرها كتاب "إدارة التوحش" الذى ينسب إلى أحد الجهاديين المصريين. ومن هنا نرى، وكما شرحت المقالات السابقة التى تضمنتها هذه السلسلة، أن هناك تواصل فى الأفكار والتحركات لتنظيم الجهاد المصرى منذ السبعينيات وحتى الوقت الراهن، وفى كل المراحل كانت له بصمته سواء على القاعدة أو على داعش.
د. عمار على حسن
طريق المتطرفين المصريين من القاعدة لـ داعش (الحلقة الأخيرة)
الخميس، 15 يناير 2015 12:06 م
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة