" ما كان اسمها ؟! لا أذكر ".. هكذا يجيب بواب العمارة التى تسكنها
" غريبة الأطوار " تلك..
لا يُعرف عنها الكثير.. لذا سعوا جميعا لاحاكة الكثير من الشائعات والاخبار المكذوبة عنها.. مما جعلها تبدو لهم أكثر غرابة..
وهى.. كيف تنظر اليهم ؟ "
بالنسبة لها ليسوا سوى وحوش بشرية تحاول حماية نفسها منهم، تتجنب مقابلتهم، تختفى عن الأنظار وتختلق الكثير من الأعذار..
من هى ؟!
سؤال حتى هى نفسها لن تستطيع أن تجيب عنه.. و هى ذاتها لا تستطيع أن تجزم ان كانت حقاً حقيقية..
أو بشرية.. ربما بما تملكه من قدرات فائقة جعلها مجازاً تظن نفسها " المُخَلِصَة "..
تخرج مع كل فجر إلی عالمها الصغير إلى تلك المشفی التى تعمل بها وبالأخص إلی قسم "حديثى الولادة " الذى تقضى فيه بقية يومها الى أن يقارب النوم من جفنيها فتعود لتنام بعمق.. نوماً غريب الأطوار.. كل صغير يدخل " الحضانة " تتعلق به تعلقا كبيرا.. منذ اللحظة التى تلتقى فيها أعينهما..
تأسر الصغير بقيود لا تُرى و تطلق عليه اسماً جديداً متجاهلة الاسم الذى سمياه به والديّه.. تراقبه بعناية فائقة.. وتبذل كل ما تستطيع من جهد ليكون فى أحسن حال
وكيف لا تفعل ؟!
وهم الذين يزورونها فى أحلامها.. يقصون عليها المستقبل.. يخبرونها بما لا تستطيع رؤيته.. ثم تعود فى اليوم التالى تحادثهم.. و تنقذ حياتهم.. فلا عجب ان تكون بجوارهم وقت احتضارهم و وهن قلوبهم و توقف أنفاسهم فتقاوم بصبر و ثبات غير طبيعى فتسعف قلوبهم المصابة.. و أجسادهم الضعيفة
.. كيف لا يكون ذلك ؟ و قد اخبروها سالفاً و طلبوا منها اسعافهم..
لكل شيء ثمن..
و هى تدفع ثمن هذه الأحلام باهظا.. صمتها الذى تتكبده جاهدة لأن لا يُكشف هذا السر.. لان الكشف يعنى الحرمان.. و ربما الموت.. فأرواح هذه الصغار ستنتقم منها اذا ما افشت السر
لذا فهى وحيدة.. وحيدة جدا.. وحيدة الى حد الموت..
بلا حياة.. سوی الوقت الذى تمضيه بين أيدى الصغار..
لكن الأمر لم يكن على ما يُرام مع " مُراد " الذى أفسد عليها يقظتها و حرمها من سُباتها...
أبی أن يفصح لها عن روحه.. و رفض أن يزورها فى أحلامها.. ما الخطأ الذى اقترفته.. لتُحرم..
مرت الليالى السبع التى عاشها مراد كئيبة خالية من الزيارت حتی استسلم مراد فى لحظة استغاثة.. فبدا و كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة فاستيقظت من حلمها هى الاخرى بشهقة و كأنها تأخذ نفسها الأول بعد الغرق.. خرجت مسرعةً الی المشفی متجاهلة تأخر الوقت و سوء الأحوال الجوية.. تجرى فى محاولة للحاق به فى أنفاسه الاخيرة
و هى لا تدرى أتفرح لانه زارها فى حلمها أم تبكى خشية فقدانه... حتی وصلت.. لا تدرى كيف وصلت و لا تعلم ماذا تفعل. ؟ نعم انه حقاً يحتضر
استيقظت الممرضة علی ندائها.. مُراد.. لا تغادر يا مراد ارجوك افق...
تنظر الممرضة حولها أين هو ذاك مراد.. من تقصد؟.. فتتبعت الطبيية الی ان وصلت الی" حضّانة " الطفل كريم.. لماذا تسميه مراد ؟ لعل الأسماء اختلطت عليها..
ذهبت الی الطبيبة و طلبت منها ان تتوقف عن المحاولة.. لا أمل.. لقد فقدناه.. لقد مات.. مرت نصف الساعة او اكثر و هى لازالت تحاول و هى لا تستجيب لمن حولها.. لقد فقدناه.. ا..
لقد كان الطفل الأول الذى يموت بين ذراعيها.. ما أكثر ما يدور فى رأسها من تساؤلات و ما أصعب ما تعانيه من ألم فقد و خيبة أمل..
لماذا مراد ؟ و لماذا فى الليلة الاخيرة..؟ و لماذا لم تزورنى الأرواح لسبع ليال.. ؟ يا ترى من أنت يا مراد؟..
أسئلة بددتها الأيام و بددها الوقت و الأطفال الاخرين..
و بعد عام مر كما يمر كل عام.. أتت الطفلة ياسمين.. الجميلة.. لتعيد اليها الاسئلة ذاتها مرة اخری أتت و هى كمراد تأبی أن تزورها فى الاحلام.. تمتنع أن تتعامل معها كما يتعامل معها هؤلاء الصغار.. حالتها مستقرة هى فقط تعانى " الصفرا ".. بضعة أيام و ستغادر منزلها بسلام.. لكنها فاجأتها فى الليلة الثالثة بدم يخرج من كل فتحات جسمها من فمها و انفها و أذنها.. جاءت اليها مستغيثة طالبة النجدة.. فأفاقت هى الآخرى و هى تشعر بشيء يخرج من أنفها.. أشعلت الضوء.. انه دم.. امالت رأسها الی الخلف و ضغطت كثيرا علی أنفها.. و خرجت متجاهلة كل ما يحدث لها و هى تفكر يستحيل أن تصاب ياسمين.. حالتها مستقرة.. لا بد أن هناك خطأ.. لكنّ ما يراودها لم يكن صحيحا.. لقد رأتها تسبح فى بركة من الدماء..
لا يمكنك أن تموتى.. أرجوك.. لكن دون جدوی.. لفظت الصغيرة أنفاسها الاخيرة منذ وقت قصير.. وسط ألم شديد لم تعرفه الا يوم موت مراد.. انهارت تبكى الصغيرين معا.. لم تنتبه الا عندما جاءت والدة الصغيرة تبكيها... قالت احدى الممرضات مسكينة هذه الأم قبل عام فقدت وليدها فى نفس هذه الحضانة.. المسكين لا اتذكر ما كان اسمه سليم او سعيد او ربما.. استفاقت الطبيبة و سألتها بلهفة هل كان اسمه كريم..؟ قالت اظن ذلك..هل تتذكرين يوم أتيت ملهوفة تحاولين انقاذه.. الغريب حقاً انك كنت تناديه مراد.. هل فقدت من قبل ولدا لك يدعی مراد... لا.. لا تشغلى بالك ربما تداخلت لدى الاسماء.. مراد و ياسمين أخوة.. هذا هو المهم
.. جمعت الاوراق بعد جهد.. لقد مر عام.. لا شيء مريب.. و لا شيء غريب كبقية الأطفال.. حتی قابلت والدة الطفلين و هى تستعد للخروج بعدما أخذت بقية أشياء صغيرتها.. سألتها الطبيبة هل أنت والدة ياسمين...؟ اجابتها عفوا..
قالت معذرة.. أقصد حنين.. أجابت و الدموع تملأ عينيها نعم.. ثم سمعت صوتا مألوفا ينادى أم الصغيرين.. هيا لنذهب.. فالتفتت اليه.. انه هو.. زوجها السابق.. الذى اعتزلت الحياة بعده.. فذهب فى طريقه بحثا عن الذرية التى لم تكتب لهما معا.. والد الصغيرين كان زوجها.. الذى دعت ذات يوم أن يطارد الموت ذريته.. ألن تغفرى لهما.. و تشفقى علی حال الأبوين المحرومين المفجوعين من موت صغارهما.. ما أجمل الأطفال حين ترفقا بحال أمهم السابقة التى لم تكتب لهما.. فاستحيا منها.. ما أبرأهم حين أخرجوا أنفسهم من كل الحسابات الشخصية.. ! ضحوا بحياتهم لكيلا يسلبوا من أمهم الأولى صفو منامها.. اكتفوا بالعذاب فى صمت وانتظار الموت الذين يقف عند رؤوسهم.. ما أنقاهم حين قرووا أن يكونوا خارج اللعبة... طيبين طاهرين.. لم يتدنسوا باثام البشر.
د. فاطمة الزهراء الحسينى يكتب: ليلاً تكشف الأسرار
الثلاثاء، 13 يناير 2015 08:07 م
صورة أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة