العودة إلى عوالم بورخيس الأسطورية بين الحين والآخر ضرورية للمشغولين بالكتابة والحياة، وخصوصا فى لحظات الفقد التى تحاصرهم بقسوة وتخطف أجمل ما فيهم، الأرجنتينى الملهم ترك الشعر بعد خروجه من غيبوبة إثر إصابته فى رأسه ليلة عيد الميلاد سنة 1938، وراح يكتب نثرا يحمله الشعر، ويتجول به فى التاريخ الإنسانى، اخترع كائنات لا يعرفها أحد غيره، عاش فى مكتبة الإسكندرية قبل قرون، وصادق ابن رشد والمعرى فى رحلته الطويلة مع المعرفة، هو لا يعترف بأى تاريخ إلا تاريخ القراءة، القراءة التى أفقدته بصره، فعينته السلطات الأرجنتينية بعدها مديرا لمكتبة بيونس أيرس الوطنية، وعاد إلى الشعر بقصيدة يحمد الله فيها لأنه «منحه الكتب والعمى بلمسة واحدة»، حياة بورخيس (1899–1986) وآراؤه لا تقل غنى عن أعماله، كان يتعامل مع نفسه كفارس من القرن التاسع عشر، وأعلن ذات مرة أنه سينتحر، وحدد موعدا بعد تكريم ميتران له فى فرنسا ومنحه أعلى وسام، وعندما سأله الصحفيون بعد مرور اليوم المحدد: لماذا كذبت؟ أجاب: قد أكون انتحرت بالفعل، وربما يكون الذى أمامكم بورخيس آخر.
قرأت له مؤخرا قصة، تحكى عن حاكم أمر مجموعة من المساجين برسم خريطة لإمبراطوريته، أرادها دقيقة وتفصيلية إلى أبعد حد، وكان له ذلك، لدرجة أنها مطابقة للأصل فى الحجم والتفاصيل، حتى راح الناس يعيشون بالخريطة وعليها وكأنهم فى مدنهم، ويوم انهارت الإمبراطورية انهارت الخريطة وضاع إنجاز المساجين، لقد انتهى التوأم المتخيل (الخريطة) مع نهاية الأصل، بعدما اختفت نهائيا الفوارق بين الأصل والصورة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة