كثر الحديث عن داعش ودولتها التى التهمت أراضى دولتين عربيتين كبيرتين هما سوريا والعراق، باعتبارها الخطر الحقيقى الذى يهدد عالمنا العربى والإسلامى، بل وبالغ البعض بالحديث عن أن هؤلاء هم التتار الجدد أعداء البشرية، بلا شك مارست هذه الميليشيات استراتيجية إدارة التوحش بشكل دقيق وصدرت الرعب، لكنها فى النهاية تبقى عنوان أزمة وليست الأزمة الحقيقية، فلقد توافرت العديد من العوامل الكفيلة بظهورها أو ظهور أى خطر مشابه مع انهيار النظام العربى، تحت مطارق استهدفت القضاء على وحدة هذه الأمة التى تحولت مؤسساتها الوحدوية، والتى من المفترض أن تجسد وحدة قرارها ومصيرها، مجرد حامل أختام يبصم على كل قرار دولى أو أمريكى يهدد أو ينسف تلك الوحدة والمصير المشترك.
هذه المنطقة التى شهدت ظهور داعش، هى الدولة التى تواطأنا جميعا على قتلها وإهدار قدرتها على المقاومة، يوم احتلت بغداد وهدم العراق أمام أعيننا منذ إحدى عشر عاما، وأعادها الأمريكان إلى القرون الوسطى بعد أن جربوا كل أسلحتهم على الشعب العراقى، ولم يخرجوا منه إلا بعد أن وضعوا بذور فتنة سنية شيعية كردية، وتضاربت الأجندات وانتعشت دعاوى الانفصال لدى كل طرف وأصبح العراق الموحد حلما بعيد المنال، وضع الأمريكان سلطة شيعية طائفية بقيادة نورى المالكى فى ولايتين متتاليتين، قدم فيهما أسوأ نموذج لحكم فأشى طائفى استهدف السنة فى العراق ومكن للنفوذ الإيرانى، بالشكل الذى جعل السفير الإيرانى فى بغداد كالسفير الأمريكى فى بيروت، رمانة الميزان فى أى قرار داخلى أو خارجى يخص العراق، تعامل المالكى بعنف مع مطالب المناطق السنية وضرب بعنف ثورة الأنبار ولم يفتح بابا للحوار مع شركاء الأمس، بعدما استشعر قوة الدعم الأمريكى والإيرانى ومع الوقت تزايد النفوذ الإيرانى فى المنطقة، بالشكل الذى هدد بالأساس توازن المصالح الأمريكية بالشكل الذى مهد لأن ترعى بعض الأطراف الأمريكية والعربية ظهور داعش، التى جسدت تواصلا نادرا بين حركتين مختلفتين فى كل شيء، حركة حزب البعث بما تضمه من جنود وضباط سابقين فى الجيش العراقى الذى حلته أمريكا فى أعقاب الغزو، وحركة الدولة الإسلامية فى العراق والشام المعروفة باسم داعش التى جسدت أحدث إصدارات القاعدة وأكثرها توحشا، ودخلت تركيا على الخط لتدعم هذا التحالف الجديد ومثلت وسيطا مر عبره التسليح المتقدم والنوعى، بعدما قدم هذا التحالف نفسه لهؤلاء بانه القادر على تحجيم النفوذ الإيرانى والانتصار للسنة على الشيعة.
لكن شهية هذا التنظيم الجديد انفتحت لالتهام المزيد ليجد الفرصة مناسبة لتحقيق حلمه فى الخلافة وإعلان الدولة، فبسط السيطرة على مزيد من الأراضى وتمدد على أكثر من 250 كيلو متر من حدود سوريا والعراق، لم تكن مصادفة إذن أن يتزامن سقوط الإخوان فى مصر مع صعود داعش فى سوريا والعراق، فيبقى الهدف هو إنهاك دول المنطقة خصوصا فى سوريا والعراق وكل دول الطوق تحت عناوين وهمية، لتبقى إسرائيل هى القوة الوحيدة المتماسكة والقادرة، فى ظل سعى محموم لتصفية قضية العرب المركزية القضية الفلسطينية، التى أصبح النظام العربى فى مواجهتها غير قادر ليس فقط على تبنيها والدفاع عنها بكل الوسائل، بل والحوار الجاد حتى حولها كنظام عربى متماسك، بعدما سقط مثلث هذا النظام على خلفية الموقف فى سوريا وتحول الثورة فيها إلى حرب أهلية وساحة لصراع دولى بين القوى الكبرى، وكالعادة لحساب الكيان الصهيونى ليصب ذلك فى مزيد من الإضعاف لدولنا ومصائرنا.
اليوم أدركت أمريكا ربما انها كررت نفس اللعبة الخطرة يوم أقدمت على رعاية المجاهدين الأفغان فى أطار مساعيها للقضاء على الاتحاد السوفيتى فى أواخر السبعينات، عندما ارتدت هذه المجموعات إلى نحورها خطرا تجسد فى مثل هذا اليوم مع أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 وتفجير برجى التجارة على يد مجموعة من القاعدة، الحدث الذى لازال يثير تساؤلات لا تنقضى حول حقيقته ومن المسئول عنه لكنه فى النهاية مع حوادث آخر جسد هذا الخطر الإرهابى الجديد، وبالرغم من هذا الإدراك الأمريكى المتأخر كالعادة إلا أنه يبدو أن الإدارة الأمريكية مصرة على الاحتفاظ بهذا الخطرتحت التحكم حتى يؤتى ثماره كاملة، بإنهاك كل هذه الدول حتى تستسلم تماما للقدر الصهيوأمريكى، لذا تبدو استراتيجية أمريكا فى مكافحة الإرهاب وإن تحدثت عن حشد تحالف من عشرات الدول لونا من ألوان الكذب المفضوح، فلا قضاء على داعش ولا غيرها من مجموعات الإرهاب، إلا بإعادة الاعتبار لدول المنطقة لتعود دولا حقيقية بجيوش قادرة على صيانة أمنها، عراق موحد سوريا ديمقراطية موحدة ليبيا موحدة تحل مشاكلها فى إطار عربى وبرعاية دولية عادلة، واستعادة لنظام أمن إقليمى يحل التناقضات بين إيران وتركيا ومصر فكلها دول إسلامية فى النهاية، ومصالحنا تقتضى التنسيق فى مواجهة الأعداء وليس الصراع فيما بيننا فتدركنا العاقبة المحتومة "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" إن مصر الجديدة تستطيع أن تلعب هذا الدور بما لها من مكانة بين الأشقاء وفى العالم، عجلة التفتيت إن تحركت فلن تترك حجرا على حجر فى دولنا، أوقفوا هذا العبث واستعصموا بوحدتكم فهى سر نجاتكم.
إن داعش هى مجرد جرس إنذار للدولة القومية يقول لها إن قصرت عن النهوض بأدوارك فسيتقدم أخرون للعب هذا الدور، أو تجسيد دولة جديدة تجلد الظهور وتقطع الرؤوس باسم الدين أو باسم أى شيء أخر فالجريمة لا تعدم تبريرا، هذا الكلام ليس تحليقا مع الأوهام أو مثالية بل تذكير بحقائق نتناسها، إذا لم ننتبه أن الفرقة وتضارب المصالح وترك الأعداء يتمددون فى غرف نومنا، فسنصحو على العبودية التى تتضاءل دونها عبودية القرون الأولى، وقد يستعيد الاستعمار موجة غزو جديدة نلحق فيها بمصير الهنود الحمر، لأننا فى الحقيقة بهذا السلوك من التنكر للأخطار الحقيقية واستحضار أخطار وهمية والنظر تحت أقدامنا، غافلون أو مغفلون لا نستحق الحياة فى هذا العالم الذى لم يعد يحفل سوى بالأقوياء الأحرار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة